كتب جعفر البكلي مقالا تحريضيا على ما يبدو جاء فيه – تكدّس آلاف الكويتيين فوق بعضهم بعضاً داخل ساحة حصن صغير لا تزيد مساحته على ستة آلاف متر مربع، يسمى «القصر الأحمر» ويشرف على شاطئ «الجهراء». وظلت تفترش الأرض بين أولئك الألوف من البشر، مئات الجثث التي أخذت في التعفن بفعل حرارة شمس الصيف الكويتي اللاهب… ولم تكُن رائحة الموتى فقط هي التي تزكم الأنوف في ذلك المحبس البغيض، بل كانت هنالك روائح منوّعة أخرى: قيْء الجرحى وعرق الأجساد النتن، وبراز الآدميين المبعثر في كل مكان، والدواب التي تزاحم البشر على بقعة ظل، ثمّ إذا اقتضاها الحال فهي تبول عليهم… ولقد زاد ذلك الهوان عويل النساء اللائي يندبن قتلاهنّ، ونشيج الأطفال الذين يطلبون، منذ الأمس، الماء فلا يجدون منه قطرة واحدة تخفف الظمأ. لقد صار الماء والطعام مفقودين تماماً في هذا المكان المحاصر من أركانه الأربعة بآلاف مؤلفة من جنود عبد العزيز آل سعود المتعطشين للعق دماء الكويتيين!
كان الفزع والجزع يفترسان أرواح أهل الكويت، والجوع والعطش يعصران الأمعاء والألسن، والذل والغِلّ يلوثان الوجوه والأنوف، والغيظ والقهر يكويان القلوب والعقول… أهذا هو الذي جاءنا طريداً فآويناه، وجائعاً فأطعمناه، وعارياً فكسيناه، وذليلاً فأكرمناه، ومسكيناً فأغنيناه؟! أهذا الذي رددنا عليه مُلكه بعد أن باد، ورفعنا له ذكره بعدما ماد، وأمددناه بمال ورجال وعدّة وعتاد؟! أهكذا يكون جزاء الإحسان؟! لا، والمهزلة، أنّ ابن سعود وجنوده الأجلاف يزعمون أنهم ما جاؤونا بالذبح إلّا ليدخلوا أهل الكويت للإسلام؟! وأيّ إسلام هذا الذي تذبحوننا لتدخلونا فيه؟! وأيّ إسلام سعودي هذا الذي يقنص أهل الكويت، حينما يخرجون بضعة أمتار من محبسهم في «القصر الأحمر» ليدفنوا قتلاهم، أو ليسحبوا جثث موتاهم من الفلاة؟! وأيّ إسلام يجوّع الكويتيين ويعطّشهم، ويمنع كلّ سفينة غوث أن تصل لهم، بل ينهبها، ويقتل بحّارتها، على شاطئ «الجهراء»؟!
كان المكدّسون خلف أسوار «القصر الأحمر»، وفوق أبراجه، وبين غرفه، وفي ساحته، وديوانيته، ومسجده، وإسطبله، قرابة ثلاثة آلاف كويتي (1)، يمثلون معظم أفراد ذلك المجتمع الصغير: الشيب والشباب… السادة والعبيد… الأغنياء والضعفاء… الأطفال والنساء… البدو والحَضر… السنّة والشيعة… وكان شيخ الكويت نفسه سالم بن مبارك الصباح بين أولئك القوم المحاصرين، وكان بعض من أفراد الأسرة الحاكمة، مثل الشيخ جابر العبد الله الصباح، جثة مضرّجة تفترسها الكواسر في الخلاء! ولم يشكّ القوم المكدّسون، في تلك الجحور الضيّقة، نهار الاثنين الحادي عشر من شهر تشرين الأول 1920، أن عاصفة الحرب التي توشك أن تدور رحاها من جديد، في هذه الليلة الشنعاء، ستكون نتيجتها الحتمية إبادة شاملة لأهل الكويت! فلقد كان لهم في هزيمة الأمس، درسٌ، أيّ درس! وكيف لهم أن يَهزموا أولئك الوحوش الذين يسمّون أنفسهم «إخواناً»، وما هم ببشر عاديين، بل صنف من الأحياء – الأموات؟!
غرقت الشمس في البحر، وأطبق فكّ الليل وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظلت الريح تسوق إلى الكويتيين المحصورين أصوات حُداء الوهابيين البعيد، وهم ينشدون أهازيجهم: «ابراهيم يا عمود الدين، امحمد يا رسول الله»… «هبّت هبوب الجنة، وين انت يا باغيها»… «خيّال الخيل، وأنا أخو من طاع الله»… وشيئاً فشيئاً أخذ نسق الأهازيج يرتفع، وكان ذلك معناه أنّ الغزاة يقتربون. ولم يلبث الكويتيون حتى بدأوا يلمحون من بعيد جحافل الوهابيين، بعماماتهم التي تميّزهم، وهم يشهرون السيوف، ويرفعون البيارق. كان «الإخوان» يسيرون إلى الحصن صفوفاً مستقيمة من ورائها صفوف، وكأنهم يقومون إلى صلاة. ثمّ تمركزوا بمدافعهم الحربية الضخمة فوق رابية قريبة استعداداً لقصف الحصن على من فيه. وصعد بعض الجنود الكويتيين حاملين بنادقهم، إلى «الغولة» الغربية الجنوبية المطلة على جموع الأعداء، كي يعاونوا الرجال المرابطين هناك. وكانت هذه «الغولة» (كما تسمى في الكويت) إحدى أبراج أربعةٍ شيّدت للمراقبة في زوايا الحصن. وجثم آخرون على الأرض، يتربصون للسعوديين ببنادقهم، من خلف «المزاغيل» الكثيرة في السور. وكانت هذه ثقوباً متفاوتة الأحجام حفرت في جدران الحصن، من أجل أن تكون مكمناً للتصويب على الغزاة. فجأة رجفت «الراجفة»، فاشتعلت الأرض والسماء بقذائف مدافع، ورصاص بنادق أربعة آلاف وهابي أطلقوا حممهم دفعة واحدة، في لحظة واحدة، بإشارة من زعيمهم فيصل الدويش.
السلطان والإخوان
كان «الراجفة» مصطلحاً قرآنياً دالاً على لحظة إفناء الله للدنيا، ودكّها دكّاً، تحضيراً لميعاد القيامة. ولقد تبنى «الإخوان» ذلك المصطلح، ليجعلوه لقب صدمتهم الأولى لأعدائهم عند الحرب. فكانت «الراجفة الوهابية» حملة قصف منظمة تستغرق من الجنود بضع دقائق يدُكون فيها معاً عدوّهم من دون أيّ توقف. واعتُبر هذا تكتيكاً عسكرياً جهنمياً، في عالم الجزيرة العربية، في بداية القرن العشرين! ولم يكن بمقدور الأعداء – وهم عادة عصابات قبَلية بدوية غير منظمة تعتمد الكر والفرّ – أن يصمدوا أمام هذا الطوفان من النار الذي ينهال عليهم بلا توقف! ثمّ إنّ «الإخوان» أحيوا من تراث «السلف» أسلوباً آخر هائلاً لم تعرفه حروب الصحراء قطّ، وذلك هو الإقبال بلا إدبار، والزحف إلى الأمام دوماً من دون أيّ تفكير في التولي، والحرص على الموت بمثل حرص الآخرين على الحياة!
بدأ «القصر الأحمر» يتداعى، تلك الليلة، تحت وابل عظيم من النار. فانقضّت عليه صفوف «الإخوان» المتتالية، وهم يهرولون متقدمين باستقامة عجيبة، لا يردعهم رصاص أو جراح أو حتوف! وكان جيشهم في معركة «الجهراء» يتكون من جناحين من الفرسان، وأربع فرق من المشاة: فرقة «مبايض»، وفرقة «فريتان والاثلة»، وفرقة «قرية السفلى»، وفرقة «قرية العليا». وكانت كل هذه أسماء «هُجر» استوطنها «الإخوان»، في فيافي نجد. وانعزلوا داخلها مهاجرين بأنفسهم من الدنيا متاع الغرور، باذلين أرواحهم للجهاد في سبيل إعلاء شريعة الله، وتعلم ضوابط الدين المستقيم ونواهيه كما حدّدها السلف الصالح.
كان هؤلاء «الإخوان» كنزاً ساقه الله لابن سعود! ولقد فطن عبد العزيز سريعاً إلى جدوى الاستفادة من هؤلاء السلفيين الجهاديين في حملاته التوسعية، فشملهم بحمايته السياسية المطلقة، منذ أنشأوا أولى خلاياهم في نجد، في حدود عام 1912. ثمّ إن عبد العزيز لمّا رأى شدة بأسهم في القتال، عمل على الاستزادة منهم، فمدّ مهاجريهم بأنصار من مختلف القبائل النجدية، وسلحهم بأجود ما حصل عليه من السلاح الإنكليزي، وموّلهم بخيرات الغنائم المنهوبة… وكانت تلك سياسة ناجحة، فلقد وجد السلطان في «الإخوان» بديلاً ظافراً وضارياً ومنظماً يستغني به عن عصائب البدو الانتهازيين الذين سوّدوا وجهه، في معركتي «جراب» و«كنزان» عام 1915. وكذلك نمت تلك الهجر، وربت بـ«إخوان مطيعين لله» حتى صاروا، في عشر سنين، أكثر من ستين ألف مقاتل، يكوّنون جيشاً وهابياً جهادياً ذا صيت مرعب في كل أنحاء الجزيرة العربية والعراق وشرق الأردن؛ لا سيما بعد المذابح المروّعة التي اقترفها أفراده في معركة «تربة»، عام 1919، ضدّ الحجازيين.
الفاجر والتاجر
لم يكن ضمن مخططات عبد العزيز آل سعود، عام 1920، أن يفتك بالكويت. فهو يعلم جيداً أنها – مثل باقي مشيخات الخليج الصغيرة الأخرى – إحدى المحميات البريطانية. وهو بنفسه قد تعهد للسير بيرسي كوكس، في البند السادس من اتفاقية «دارين» (بتاريخ 26 كانون الثاني 1915) أن يتحاشى الاعتداء على الكويت، أو التدخل في شؤونها. ثمّ إنّ عين سلطان نجد كانت شاخصة، في ذلك العام، نحو بلاد حائل خاصة، ونحو الحجاز تالياً. ولكنّ وقائع صغيرة استجدّت، فأشعلت حرباً ضد الكويتيين.
وكان من أسباب ما جرى أنّ شيخ الكويت الجديد سالم بن مبارك الصباح أظهر توجساً من الانتفاخ المفاجئ لمُلك ابن سعود الذي ما كاد يستقيم له حُكم نجد، حتى ابتلع الأحساء شرقاً، ثمّ افترس بلاد عسير غرباً. ولعل حَسداً ما قد خالط التوجس في نفس ابن صباح؛ فهو كان يعرف ماضي آل سعود، في منفاهم الكويتي، أيام كان بعضهم يجيء زَريّاً تافهاً إلى مجلس أبيه! ثمّ إنّ ضيق شيخ الميناء التجاري الأهمّ في الخليج، ما لبث حتى استحال حنقاً، حين علِم سالم أنّ «هُجُر» الإخوان قد بدأت تقضم من أراضيه هو، وأنهم أخذوا يبنون مستوطنة جديدة سموها «العليا»، بالقرب من آبار ماء كويتية.
فأرسل لهم سرية من جنوده قوامها 300 مقاتل بقيادة قريبه دعيج بن سلمان الصباح، ليطردهم من ذلك المكان. إلاّ أنّ تلك القوة سرعان ما هُزمت، يوم 18 أيار 1920، بعد أن هاجمها قائد «الإخوان» فيصل الدويش بأكثر من ألفين من أتباعه، في مكان يسمّى «حَمَض» (2).
كانت هزيمة شيخ الكويت، مذلة ومهينة. فمن هزموه لم يكونوا سوى أتباع من اعتُبر – يوماً ما- «تابعاً» لأبيه! وبدا للشيخ سالم الصباح أنّ تحالفاته الإقليمية يجب أن يحدث فيها شيئاً من التغيير، وأما تحالفاته الدولية فيجب أن يصير فيها شيء من التمتين. وهكذا فإنه بادر، قبل كل شيء، إلى مقابلة الوكيل السياسي البريطاني في الكويت الميجور جون مور ليشكو له ما تعرّض له من أذى «الإخوان»، وليطلعه على ما يخشاه من مكر ابن سعود بالكويت. وهدّأ «الميجور» من روع الشيخ التاجر، وطمأنه بأنّ الكويت لا خوف عليها، فهي تحظى برعاية الله وبريطانيا.
وبعد أن اطمأن ابن صباح لرضى الربّ عنه، أرسل إلى ابن رشيد حاكم حائل، طالباً التحالف معه ضد الخصم المشترك ابن سعود. ولم يضيّع ابن رشيد الفرصة، فقام بإرسال نجدة من الفرسان إلى الكويت، بقيادة الشيخ ضاري بن طوالة. ولم يكتف الشيخ سالم بهذا السند من حائل، فسعى إلى أن يوطّد علاقاته مع شيوخ قبيلة العجمان أعداء ابن سعود، ورحّب بهم وبرجالهم، في مشيخته، من بعد أن طردهم عبد العزيز من موطنهم في الأحساء. ثمّ إنّ ابن صباح – ولمزيد الاحتياط – أمر بعد أربعة أيام من هزيمة «حمض»، ببناء سور جديد ثالث ليحيط بالكويت، ويصدّ المتربصين به شرّاً.
لكنّ هذه التحالفات والاحتياطات الجديدة التي اشتغل عليها ابن صباح، لم تجعله يقطع شعرة معاوية نهائياً مع ابن سعود. فأوفد للأخير في الرياض وفدا، يوم 30 حزيران 1920، وشكا إليه ما حصل منه ومن «إخوانه»، وذكّره بأفضال آل الصباح على آل سعود في أيام محنتهم في المنفى الكويتي. ويبدو أنّ عبد العزيز لم يرُقه هذا المنّ عليه، فخاطب من قدم عليه من الكويتيين قائلاً: «أما فضل آل صباح عليّ -الذي يعيّرني به- فالفضل لله، ولا فضل عليّ لسواه. وأمّا ما حدث بين جنود الكويت و«الإخوان» من قنال، فلا دخل لي فيه، بل إنني رغبت في منعه. وأمّا شكواكم مما حصل لكم فمردودة، لأنكم أنتم الذين تدخلتم في ما لا يعنيكم». ثمّ استدرك عبد العزيز، وقال: «إن كان ابن صباح يطلب مني حقوق الصداقة القديمة فأنا أعطيه، وسأرسل معكم ناصر بن فرحان آل سعود ليراضي الشيخ سالم. وأما الأموال التي صادرها جيش الإخوان، فإنني آمُر لكم من الآن بجمع خُمسها، الذي هو نصيبي، وإرساله معكم لأهل الكويت. وأما البقية فهو غنيمة الإخوان».
وكذلك عاد وفد ابن صباح إلى الكويت، في يوم 1 تموز 1920. وقابل الشيخ سالم مندوبَ عبد العزيز، فتلاسنا. ورأى المندوب السعودي رجال حائل في مجلس ابن صباح، ومسرّة الأخير بهم، وما يحضّره من السور حول الكويت. فأضمر ذلك في نفسه. وأخبر به عبدَ العزيز، حين التقاه. وفهم ابن سعود أنّ سالماً «يلعب بذيله». فبعث، من فوره، لقائد جيشه سلطان الدويش، المتمركز في هجرة «الأرطاوية»، ليتجهز لغزو الكويت. وجمع الدويش أربعة آلاف من جنوده، وأقبل بمن معه إلى «الجهراء»، فجر يوم 10 تشرين الأول 1920. وتجهز الشيخ سالم بمن في مدينته من رجال، وبفرسان شمّر الذين أمدّه بهم حاكم حائل. وخرج بدوره، في أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل، لصدّ الغزاة السعوديين.
وفي الساعة السادسة من صباح يوم الأحد الموافق 10/10/1920، زحفت قوات «الإخوان» على قرية الجهراء الكويتية، وتمركزوا في مرتفع يسمى «صيهد ابن الرشيد»، الواقع في الجنوب الغربي من البلدة. كان هجوم الإخوان عنيفاً، لدرجة لم يستمر معها القتال أكثر من ثلاث ساعات، قتلوا فيها من الكويتيين قرابة 300 شخص. وكان أول من هرب من ساحة المعركة الشيخ سالم الصباح، فقد انسحب إلى داخل حصن بحري صغير يسمى «القصر الأحمر». وانتشرت، من بعد فرار الشيخ، الفوضى في بقية القوات الكويتية المدافعة، واندفع أفرادها بغير نظام، طلباً للسلامة (3). واحتمى الهاربون الكويتيون جميعاً بذلك «القصر الأحمر»، وغلّقوا من خلفهم الأبواب، حتى غصّ بهم غصّا. وانتشر جنود ابن سعود في البساتين كالجراد، ينشرون الموت والخراب، ويقتلون كل من يقابلهم. وأطبق الحصار الخانق على الكويتيين يومين كاملين، بلا طعام أو شراب. وكانت عيشتهم في الحصن عيشة ضنكا. حتى إذا حلّ مساء اليوم التالي (11 تشرين الأول)، وسمعوا «راجفة الإخوان»، ورأوهم وهم يقبلون عليهم مقتحمين، أيقن أهل الكويت أنّ ذلك اليوم سيكون آخر أيام حياتهم!
أسلمنا… أسلمنا!
ولقد بدت نتيجة معركة بلدة «الجهراء» (أو «الجهرى» كما تنطق) محسومة سلفاً. غير أنّ الكويتيين، وقد أيقنوا أن لا أمل لهم في مهرب أو نجاة، اتخذوا من يأسهم عزماً، فاستبسلوا وراء أسوارهم، في الدفاع عن أنفسهم، تلك الليلة، أيّ استبسال! وكان كلما تقدم إليهم فوج من «الإخوان»، أصْلَوْه بنيرانهم؛ حتى مات من الوهابيين الذين يعزّ عليهم أن يتولوا يوم الزحف، خلق كثير. ولقد دفعت مذبحة «الإخوان» بقائدهم فيصل الدويش أن يقرّر الهجوم بنفسه على الحصن حاملاً الراية. لكنّ عدداً من معاونيه أمسكوا به زاعمين له أن لا شيء يستدعي منه ذلك، فالقصر ساقط ساقط، إن بنصل السيف، أو بنصل الجوع، وليس هنالك أي داع للعجلة! وهكذا هدأ القتال بين الوهابيين والكويتيين، تلك الليلة، حتى حلّ الفجر.
في صباح يوم الثلاثاء 12 تشرين الأول 1920، طلب ابن صباح التفاوض. وكان قد جاءه إلى حصنه، قبل يومين، من فيصل الدويش مندوبٌ اسمه منديل بن غنيمان يدعوه إلى الدخول في الإسلام، وأن يترك هو وأهل الكويت ما هم عليه من كفر وعُهر، وأن يطهّروا مدينتهم من الشيعة، وأن يقطعوا علاقاتهم مع النصارى. فعزّ على الشيخ سالم، رغم ما به من كرب، أن يقبل بمثل هذه المطالب التي تجعله كافراً وداعراً. ولكنّه، من بعد أن ضُيّق عليه الحصار، لم يجد بدّاً من أن يقبل العَوج طلباً للفرج!
وأرسل الدويش إلى سالم الصباح، بعد أن بلغه أنّ الأخير يرضى بالدخول في الإسلام، مفتي «الإخوان» الشيخ عثمان بن سليمان، ليُعلِم أهل الكويت أمور دينهم. وكانت مطالب المفتي الوهابي كالتالي: أولاً أن يقرّ الكويتيون أمامه بأنهم يدخلون الآن في الإسلام ويطبقون أركانه الخمسة. وصاح كل المحشورين في الحصن، وقد صاروا إلى حال مقرف من الضجر: «أسلمنا … أسلمنا». وكان الشرط الثاني أن يلغى «سوق البغاء» في المدينة، فقبلوا. ثمّ رضوا أن يتركوا المنكرات والتدخين، وأن يرحّلوا الشيعة عن الكويت، بل إنهم وعدوا أيضاً بأن يطردوا القنصل البريطاني من بلدهم. وأن يهدموا المستشفى الأميركي الذي سمع «الإخوان» بأنّ أطباءه يقومون بالتبشير بالمسيحية، تحت ستار التطبيب والرعاية الصحية.
وتظاهر الشيخ سالم بن مبارك الصباح بالموافقة على مطالب الإخوان، وأوعز إلى عبد العزيز الرشيد بأن يكتب رسالة إلى «الأخ» فيصل الدويش يخبره بالموافقة على كل شروطه، وأولها الدخول في الإسلام؛ على أن يفك الحصار، وينسحب «الإخوان» من الجهرة إلى الصبيحية. وبعد ذلك، يجيء إليهم سالم الصباح ومعه جميع أهل الكويت، ليشهدوهم كيف أنهم دخلوا للإسلام على أيديهم.
وطبقاً لهذا الاتفاق، انفكّ الحصار. ففرّ الكويتيون بجلودهم، وهم لا يكادون يصدّقون بأنهم قد أفلتوا!
حضرة حميد الشيم الأجل الأفخم
ما إن خرج أول أصابع رجل الشيخ سالم الصباح خارج المصيدة، حتى بعث مستعجلاً إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت الميجور جون مور، بهذا المكتوب.
[تنويه: الأخطاء اللغوية والتركيبية، هي من المصدر]
«إلى حضرة حميد الشيم الأجل الأفخم المحب العزيز الميجر جي. سي. مور بولتكل أجنت [يعني: political agent] الدولة البهية القيصرية الانكليزية بالكويت دام محروسا. بعده، نعرض لسعادتكم بخصوص تعديات الدويش وأتباعه. فبتاريخ 26 محرم 1339 هجموا على الجهرة وفعلوا بموجب ما بيّنا لجنابكم بوقته ونحن ما كنا مستعدين من حيث أننا آمنين بواسطة الجواب من قبولنا لتحكيم الحكومة البريطانية. فالآن الدويش ومن معه نزلوا على الصبيحية وأرسل لنا مندوبين بطلب المسالمة على شروط ليست مرضية ولا يمكن نوافق عليها. فبنأن [= فبناءً] عليه بحسب الصداقة التي بيننا وبين الحكومة البريطانية نطلب المساعدة بدفع هاءالا [هؤلاء] من هذا الموقع. ولا زلنا شاكرين فضل الحكومة البريطانية. هذا ما لزم ودمتم محروسين. في 6 صفر 1339 هـ. سالم المبارك الصباح حاكم الكويت».
وقبيل منتصف ليلة 20/10/1920 وصلت السفينة الحربية البريطانية «سبيكل» إلى ميناء الكويت وبدأت ترسل أسهماً نارية حمراء في الجو حتى الصباح، لتطمئن الشيخ الصباح. ثمّ رمت طائرة حربية بريطانية منشورات على معسكر «الإخوان» تهدد بقصفهم إن هم لم يغادروا الكويت حالاً. وكان النص الحرفي للمنشور كالتالي: [ملاحظة: تبدو لغة الوكيل جون مور العربية، برغم أخطائه الكثيرة، أفضل حالاً من لغة سالم الصباح]
«إلى فيصل الدويش وجميع الإخوان الذين معه.
ليكن معلوم لديكم بأنه طالما أفعالكم ضيّقت على البادية وحتى على الجهره أيضاً وبما أن الحكومة البريطانية لم تدعى لتعمل أكثر مما هي عادتها أن تسعى بحسب الصداقة وراء الإصلاح. فأما الآن ما دام أنتم تهددون ليس فقط ضد حقوق سعادة شيخ الكويت التي تخالف تأميننا له بل ضد مصالح بريطانيه، وسلامة الرعايا البريطانيين. ولا يمكن بعد للحكومة البريطانية أن تقف على جانب بدون دخولها في المسئلة (المسألة). ثم من التأمينات التي نطق بها من مدة قصيرة سعادة الشيخ سر عبد العزيز بن عبد الرحمان الفيصل السعود كي. سي. اي. دي، إلى فخامة السر برسي كوكس المندوب السامي في العراق، تثق الحكومة البريطانية أن أفعالكم العدائية هي بعكس إرادة وأوامر الأمير المشار إليه. ولا شك بأن سعادته سينبهكم بذلك عندما يعلم بأفعالكم.
بناء عليه بهذا ننبهكم بأنه إذا تجربون أن تهجموا على مدينة الكويت فحينئذ ستحسبون مجرمين بالحرب ليس فقط عند سعادة شيخ الكويت بل عند الحكومة البريطانية أيضاً. فالحكومة البريطانية لم تعتبر ذلك بل ستقابل هكذا أفعال عدائية بواسطة القوة التي تفتكر لايقة. هذا ما لزم اعلامه لكم. تاريخ 7 صفر 1339هـ.
ميجر. جي. سي. مور الوكيل السياسي لدولة بريطانيا في الكويت 20/10/20 (4)».
ومن بعد أن قرأ زعيم السلفيين الجهاديين السعوديين، التعليمات التي ألقتها عليه الطائرة البريطانية، أسرع مع «إخوانه» يلملمون أغراضهم من المكان، ويغادرون الكويت. لقد انتهت اللعبة.
الهوامش:
(1) الأرجح أن عدد الكويتيين الذين خرجوا للقتال، كانوا ما بين 1500 و3000 رجل. لكنّ الذين أطبق عليهم حصار الوهابيين في «القصر الأحمر»، كانوا أكثر من ذلك بكثير، لأنّ أطفال بلدة الجهرا ونساءها قد التجأوا جميعاً إلى الحصن. وقد ذكر ذلك المؤرخ الكويتي عبد العزيز الرشيد في كتابه «تاريخ الكويت»، صفحة 255. والرشيد نفسه كان واحداً من جملة المحاصرين.
(2) أمين الريحاني، كتاب «تاريخ نجد الحديث»، ص 272.
(3) خالد حمود السعدون، العلاقات بين الكويت ونجد (1902-1922) ص 217.
(4) يمكن مراجعة مجموعة مراسلات الشيخ سالم الصباح، والوكيل البريطاني جون مور، في ملاحق كتاب «معركة الجهراء – دراسة وثائقية» للمؤرخ بدر الدين عباس الخصوصي.