إكس خبر- حسم وليد جنبلاط جدلاً يدور منذ زمن طويل بشأن هل أن الدروز مسلمون أم لا؟ قال إن «النبي نبينا… وإن أصلنا مسلم». هذا ليس كلاماً عابراً لمن يعرف بيئة الموحّدين. فهل تحرّك بفعل القلق من «داعش»؟
دعا رئيس جبهة النضال الوطني طائفته لـ«العودة الى الاصول وبناء الجوامع و(إقامة) الفرائض الخمس». وعد ببناء جامع في عقر داره وقصر أهله في المختارة، وإعادة بناء مسجد بلدة عبيه.
دعوته هذه تذكِّر بأخرى مماثلة قام بها الشهيد كمال جنبلاط، قائد الحركة الوطنية، العروبي الصادق، الشفّاف حتى الصفاء، الناظر الى الحياة بعيني حكيم هندي. استصدر آنذاك من الأزهر الشريف في القاهرة، وبدعم من الزعيم العربي جمال عبد الناصر، فتوى تؤكد أن الموحّدين الدروز هم مذهب من مذاهب الاسلام الحنيف.
في الماضي كما في الحاضر، ثمة مشايخ لم يفرحوا. الواقع أن عند الموحّدين طبقات من المعرفة والوعي. منهم من درس وتعمق ومحَّص في التاريخ وكُتب «الحكمة» الشهيرة عندهم للعودة الى الأصل، أي الى القرآن الكريم، فينسجمون مع الاسلام. منهم من يكتفي بالقشور فيفسِّر كما يشاء، وينزلق حيث لا أحد يقوِّم، ويبتدع ما يريد من تأويلات، فيبتعدون عن الاسلام. ومنهم من لا يعرف فيقرأ من دون أن يفهم لمجرد الاعتقاد بأن في القراءة فعل إيمان، بغض النظر عن الاصول والمآلات.
يختلف كل هؤلاء، لكنهم يلتقون عند هدف واحد: حماية المذهب. البعض يحميه بالانغلاق والتطرف، والمتنوّرون يحمونه بالانفتاح والعودة الى الاسلام. ينزعج جنبلاط من الانغلاق، لكنه لا يتصادم معه. يعرف قبل غيره أن ثمة علاقة مستمرة بين الكهنوت الدرزي والاقطاع السياسي لا تزال تحمي المختارة والزعامة.
ثمة شكيزوفرينيا عند منغلقي الموحّدين الدروز، لا بل عند نسبة لا بأس بها من غير المنغلقين. هم يذهبون إلى تهنئة زعيمهم إن تزوّج من خارج المذهب (مرة شركسية من الاردن، وثانية سنية من سورية). فعلوا الشيء نفسه حين زوَّج ابنه تيمور من فتاة شيعية. لكنهم هم أنفسهم من ينبذون اجتماعياً أحد فقرائهم إن قام بالأمر عينه. يصل بعض متطرفيهم الى حد قطع العضو التناسلي لشاب سني فقير من عكّار لأن حبَّه دفعه الى القفز فوق المذاهب والزواج خلسة من فتاة من بيصور. حينها غضب جنبلاط غضباً كبيراً، وكذلك فعل بعض المتنوّرين، وبينهم ابن بيصور نفسها الوزير غازي العريضي.
هي إذاً مشكلة فقهية واجتماعية وسياسية. في الايمان عند الموحدين أن الدعوة الى مذهبهم اُقفلت ولا مجال لفتحها أمام الآخرين. يحار البسطاء بينهم في تفسير التناقض بين أن يقرأوا الفاتحة من القرآن الكريم في كل زفاف ومأتم، وأن يقفوا عاجزين عن فهم سر العلاقة مع الاسلام.
جاهد كمال جنبلاط تاريخياً في توسيع فكرة الدين. شغلته قضية الانسجام بين الانسان والكون. سخر من المتزمّتين، وقاسم البسطاء خبزه اليومي. من يدقّق في ما كتب يفهم أنه لم يميّز يوماً بين دين وآخر. اعتبر أن الكتب السماوية اُنزلت لكي تقرِّب الانسان من خالقه، من الحق، لكن غباء الانسان جعله ينسى الخالق ويتقاتل على الكتب.
الغباء يتكرر، فيقلق البيك الجنبلاطي اليوم من احتمالات الفتنة السنية ــ الدرزية. يخاف على طائفته وعلى الوطن. لا شيء يمكن أن يفسر «انزياحات» جنبلاط (كلمة انزياحات لمحسن دلول) إلا هذا الحرص على حماية طائفته. من يقرأ مراسلاته اليوم مع عدد من أصدقائه، وبينهم الناشط اليهودي أوري افنيري (وهي تستحق فعلاًً أن تنشر في كتاب يوماً ما)، يفهم كم هو يائس من واقع العرب والعروبة، وكم يرى في «داعش» والحركات الارهابية التكفيرية أخطر مراحل تفكك الدولة والحلم. تارة يعود الى المآسي التي خلّفها سايكس وبيكو، وتارة يرى أن غباء الغرب وعنصريته في حماية إسرائيل أوصلا العرب الى ما هم فيه.
كل ذلك مبرر، لكن دعوة جنبلاط الى إقامة المساجد والعودة الى الاسلام الصحيح أثارت عدة ردود: بعضها ضاحك. فمثلاًً، ثمة من يروي أن رئيس مجلس النواب نبيه بري اتصل به ممازحاً وعارضاً إرسال مسبحة وسجادة صلاة، وأن شخصاً آخر اتصل يناقشه في الفرائض الخمس. وبعضها كامن كالجمر تحت الرماد في البيئة الدرزية التي فيها أيضاً متطرفون ومنغلقون، وبعضها الثالث متفهّم للقلق الكبير.
في أسباب القلق أن ثمة من يريد فتنة. برزت بعض انعكاساتها في جبل العرب وجواره في سورية، ويبرز بعضها الأخطر حالياً في المناطق المحاذية لفلسطين المحتلة. هنا المخالب الاسرائيلية تعود الى الحلم الاسرائيلي القديم بإقامة شريط فاصل، وبمحاولة إغراء الموحّدين الذين يقاتل بعضهم في جيشها، فيما البعض الآخر يناضل في الجهة الثانية من الجولان ضد الاحتلال.
في مراحل الصراعات الكبرى، تقلق الأقليات. لعل القلق الجنبلاطي في أوجه حالياً. ولأنه كذلك، يجب البحث عن كل المخارج، حتى ولو كان في الأمر إعادة بناء المساجد وإثارة بعض المتطرفين عند الدروز وغيرهم.
مع ذلك، فثمة سؤال جوهري يُطرح: هل دور اليسار العربي، وبينه الحزب الاشتراكي بقيادة جنبلاط، هو الدعوة إلى الإسلام الصحيح وبناء المساجد، أم البحث عن فكرة عروبية أوسع تعيد تصويب البوصلة نحو الاتجاه الصحيح؟