إكس خبر- لا تعتقد هذه السطور بخيانة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ولا تستهدف التعريض بالرئيس الإيراني المنتخب حسن روحاني، وإنما عقد المقايسة بين التجربتين التفاوضيتين المصرية – الأميركية والإيرانية – الأميركية وتسليط الضوء على الاستراتيجية الأميركية المتشابهة فيهما، برغم كل الفوارق بين التجربتين الساداتية والروحانية والسياقات المحلية والإقليمية والدولية التي جرى التفاوض في إطارها. يتشابه الرجلان أنور السادات وحسن روحاني في خوضهما مفاوضات مع أميركا لها القدرة على تغيير وجه الحياة في بلديهما وكامل الشرق الأوسط، ولكنهما واجها مع اختلاف التوقيت استراتيجية أميركية تفاوضية متشابهة، مفادها إطالة أمد التفاوض وفتح المجال الزمني له، بغرض انتزاع تنازلات متتابعة في صورة «مبادرات حسن نوايا». لا يعني ذلك أن حسن روحاني سينتهي تفاوضياً مثلما انتهى السادات، ولكن تشابه الاستراتيجية التفاوضية الأميركية في التجربتين جدير بتسليط الضوء عليه. على ذلك لا يعتقد كاتب السطور بإمكان التوصل إلى اتفاق شامل بين إيران والدول الست الكبرى خلال الفترة المقبلة، وهي نتيجة تحليلية لها تداعياتها الجيو- سياسية على كامل التوازنات الإقليمية في المنطقة وملفاتها المتشابكة.
خبرة التفاوض الساداتية ودرسها
يشكل المسار التفاوضي للرئيس المصري الراحل أنور السادات مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل درساً فائق الأهمية لكل المهتمين بمسائل التفاوض في العلاقات الدولية، ولدارسي القضايا المصيرية الكبرى التي غيرت وجه الشرق الأوسط. ذهب أنور السادات في رهانه على تسوية سلمية للصراع العربي – الإسرائيلي برعاية أميركية إلى ما لم يذهب إليه أحد من قبله وربما من بعده. بداية من تحييد حليفه الدولي – الاتحاد السوفياتي وقتذاك – بعيد حرب العام 1973 إلى خرق الإجماع العربي حيال إسرائيل، ومن ثم إلى التوقيع على اتفاقيتي فض الاشتباك مع إسرائيل في العام 1975 التي أخرجت مصر عملياً وتعاقدياً من معادلة الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وصولاً إلى زيارة القدس العام 1977، ومن ثم الاتفاق الشهير في كامب ديفيد. هذا المسار التفاوضي الدرامي الذي ابتدأ مصرياً بمطالب الانسحاب الإسرائيلي من كامل الأراضي العربية التي احتلت في العام 1967 وإقامة كيان فلسطيني على أراضي الضفة الغربية وغزة، انتهى بتوقيع السادات على اتفاق سلام منفرد مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في كامب ديفيد العام 1978 ينزع السيادة العسكرية المصرية عن سيناء! لم يتشكل هذا المسار بين يوم ليلة، ويمكن إرجاعه بالأساس إلى فساد الاستراتيجية التفاوضية للرئيس المصري الراحل تلك التي قبلت بتقديم تنازلات وإثباتات لحسن النوايا طيلة منعطفات التفاوض من دون تحديد أفق زمني واضح لعملية التفاوض ذاتها. ومع فقدان حرب تشرين 1973 لقوة دفعها عقب اتفاقات فض الاشتباك، فقد اقترب السادات من المواقف الأميركية ولم يحبذ عقد مؤتمر دولي للسلام. ومع انتخاب مناحيم بيغن رئيساً لوزراء إسرائيل، فقد كانت عملية السلام محتاجة لقوة دفع جديدة، فزين كيسنغر للسادات زيارة القدس، ولما لم تسفر تلك الزيارة عن نتيجة مباشرة، فقد كان محتماً عليه الذهاب منفرداً إلى كامب ديفيد. وفي طريق التفاوض الطويل من العام 1973 وحتى العام 1978 من القاهرة إلى كامب ديفيد وقعت القضية الفلسطينية من الحسابات والتسوية الشاملة للصراع، مع بقاء التعهد المصري عملياً وتعاقدياً بعدم إمكانية اللجوء إلى الحل العسكري. كانت كل بادرة حسن نية يقطعها السادات، تقطع معها طريق الرجعة وتجعل تكلفة الفشل مرتفعة للغاية. ولعل الحوار الشهير الدائر بين السادات والرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر – ذكره الأخير في مذكراته ــ إبان عزم الأخير مغادرة كامب ديفيد وقطع التفاوض لما بدا من تعنت إسرائيلي، الدليل الصارخ على المأساة التي وصلها السادات واضطرته في النهاية إلى التوقيع، في الوقت الذي استقال فيها وزيران للخارجية المصرية هما إسماعيل فهمي ومحمد إبراهيم كامل، احتجاجاً من الأول على إطار التفاوض ومن الثاني قبل التوقيع مباشرة احتجاجاً على عمق المنحدر الذي أراد السادات التوقيع عليه. يقول كارتر للسادات: «هل تعلم ماذا تعني خطوتك وهل تقدر عواقبها؟ سيضحكون عليك في الشرق الأوسط وستصدم شعبك الذي ينتظر إنجازات، وستحرمني من فرصة الفوز الرئاسي. لن تحصل مني على مساعدات ولن تكون هناك علاقات خاصة. لكن إذا وقعت، أعدك بأن أساعدك بكل جهدي على تحسين وضعك والشروط». كان السادات قد سار الشوط حتى نهايته في إبداء «حسن النوايا» وكان ثمن الفشل أكثر من غالٍ، فكان ما كان.
خبرة التفاوض الروحانية ودرسها
برغم سيل التوقعات والمقالات والأوراق والندوات حول العالم عن قرب التوصل إلى اتفاق شامل بين إيران والغرب، وبالأحرى بين طهران وواشنطن، يغير وجه المنطقة، يبدو هذا التوقع مستنداً إلى أمنيات أكثر منه إلى حقائق. صحيح أن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط ستستفيد من إبرام هكذا اتفاق، ولكنه أيضاً صحيح أن اللوبي الصهيوني أكثر نفوذاً مما يعتقد كثيرون حول العالم. وأفاضت دراسات كثيرة في تفصيل خطورته ونفاذه إلى معادلات صنع القرار الأميركية، ولعل أبرزها كتاب اللوبي الصهيوني لمؤلفه جون ميرشهايمر. وفوق ذلك، لا تشعر إدارة أوباما بالضغط للوصول إلى اتفاق شامل مع إيران، لأنها تحصل على أغلب ما تريد الحصول عليه من طهران في الإطار والسياق التفاوضي الحالي، ومن دون دفع أثمان ذات مغزى أو مواجهة حقيقية مع إسرائيل. ويعود السبب في ذلك إلى عدم تحديد إطار زمني للمفاوضات ترفع خلالها كامل العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، ما يجعل إيران في وضعية «إثبات حسن النوايا» على طول الخط. ولعل «اتفاق الإطار» الموقع العام 2013 بين إيران والدول الست الكبرى، هو الدليل الأبرز على ذلك. افترض روحاني أن «اتفاق الإطار» المذكور يوفر جسراً موقتاً للوصول إلى اتفاق شامل، لكن الإدارة الأميركية تستخدم هذا الاتفاق كوسيلة لإطالة المفاوضات، بغرض انتزاع التنازلات تلو الأخرى من إيران في إطار «إثبات حسن النوايا». هكذا جمد روحاني برنامج التخصيب الإيراني وكبح تعاقدياً إمكانات تطوره طيلة فترة المفاوضات، تلك التي لم تتحدد على إي حال بسقف زمني، في مقابل رفع رمزي لبعض العقوبات مع إبقاء الجسم الأساسي لها شاخصاً. حتى الآن، تمددت المفاوضات لسنة كاملة منذ توقيع «اتفاق الإطار»، ولا يبدو في الأفق سقف لها، وربما تمتد سنتين إضافيتين حتى نهاية الولاية الرئاسية الثانية لأوباما. وفي جولة التفاوض الأخيرة في فيينا، وافقت إيران على تمديد المفاوضات، لأن تكلفة الفشل ستكون عالية لروحاني وإدارته.
الخلاصة
يلعب الوقت في مصلحة المفاوض الأميركي لأن العقوبات الاقتصادية تطحن الاقتصاد الإيراني، وكلما طال وقت التفاوض ستكون إيران أكثر ليونة في التعامل مع المطالب الأميركية بشأن التخصيب واستبعاد الرفع الكامل للعقوبات، حتى ولو لم يسلم المفاوض الإيراني بذلك الآن. لإيران أسبابها الخاصة في الاعتقاد أن لا اتفاق حتى الآن أفضل من اتفاق سيئ، طالما استمرت عجلة المفاوضات في الدوران. في المقابل، يقضي جوهر الاستراتيجية التفاوضية الأميركية بأن الإدارة الأميركية ستستطيع الاحتفاظ بمكاسبها المتحققة من الإتفاق الإطاري الموقع العام 2013 الذي يجمد البرنامج النووي الإيراني في مكانه، وفي الوقت نفسه امتلاك ورقة الضغط الاقتصادي على إيران. ومع انهيار أسعار النفط في الشهور القليلة الماضية يزداد الضغط الاقتصادي على إيران، ما يجعل الإدارة الأميركية مرتاحة أكثر في الجلوس على مائدة التفاوض في مواجهة الإيرانيين. تعتمد الإستراتيجية التفاوضية الأميركية على افتراض أساس، مفاده أن إيران لن تقطع المفاوضات النووية وإلا ستتحمل وحدها مسؤولية الفشل فيها. هنا لا يبقى أمام روحاني سوى خيارين: إما قطع المفاوضات والعودة إلى التخصيب بمعدلات مرتفعة وما يعنيه ذلك من أثمان سياسية كبرى، أو تكرار تجربة أنور السادات في مفاوضات مفتوحة الآفق الزمني! لا خيار ثالث يبدو ممكناً.