إكس خبر- في حزيران (يونيو) 1919، أرسلت الحكومة التركية الى مؤتمر فرساي رئيس الوزراء الدامات فريد باشا، بهدف إقناع المجتمعين بأهمية التنسيق مع بلاده. وقدم فريد باشا الى قادة المؤتمر مذكرة سياسية تتضمن مختلف المطالب التي تتمنى بلاده تحقيقها. وكانت، في مجملها، تركز على ضرورة المحافظة على الحدود الجغرافية بعد انهيار الامبراطورية العثمانية المترامية الأطراف.
وجاء في المذكرة ما حمل الرئيس الاميركي وودرو ويلسون، ورئيس الحكومة البريطانية ديفيد لويد جورج، ورئيس الحكومة الفرنسية جورج كليمنصو… على إعلان استنكارهم وغضبهم. والسبب أن تركيا، الدولة المهزومة في الحرب العالمية الأولى، طالبت المجتمعين في قصر فرساي بالامتناع عن توزيع أراضيها على الأكراد والأرمن واليونانيين! كما شددت المذكرة أيضاً على أهمية الاحتفاط بولاية الموصل وديار بكر والجزء الأكبر من ولاية حلب.
وكان من الطبيعي أن تُقابَل تلك المطالب بالرفض القاطع، مع تبرير معلن خلاصته: إن الامبراطورية المسلمة فشلت في إنصاف الأقليات المنضوية تحت لوائها، وخصوصاً الأقليات المسلمة.
ومن المفيد التذكير بأن ولاية الموصل في العهد العثماني كانت تمتد من زاخو، جنوب شرقي الأناضول، مروراً بداهوك وأربيل والغوش وكركوك والسليمانية… حتى جبال زاغروس، التي تشكل الحدود مع ايران.
وعلى رغم اختلاف الأزمنة والقادة، فإن أنقرة اليوم تسعى الى إقناع الدول الغربية بضرورة اعتماد سياستها في منطقة تعتبرها امتداداً طبيعياً لجغرافيتها القديمة.
وكما شكك زعماء مؤتمر فرساي بنيّات الدولة العثمانية… كذلك شككت واشنطن اليوم بمطامع الرئيس رجب طيب اردوغان الذي يربط تعاونه العسكري للمشاركة في محاربة «داعش» بالعمل أولاً على إسقاط نظام بشار الأسد.
وقد شهدت الأيام القليلة الماضية سلسلة وقائع سياسية تعكس الى حد كبير الخلاف الاميركي- التركي حول مستقبل سورية. والمَثل على ذلك ما صرَّح به نائب الرئيس الاميركي جو بايدن الذي ألقى على تركيا مسؤولية إبراز «داعش»، وإظهاره بمظهر الجهة المتفهمة. وكان بايدن بهذا التلميح يشير، مداورة، الى عملية إنقاذ الرهائن الأتراك وما رافقها من تفاسير مريبة.
والملاحظ أن ذلك الخلاف قد تجدد عقب محاصرة مدينة عين العرب (كوباني)، ومطالبة واشنطن بالإسراع في نقل مساعدات عسكرية الى الأكراد المعزولين والمهددين في الداخل. وتبيَّن لاحقاً أن أنقرة تجاهلت نداء الادارة الاميركية لأنها كانت تتوقع من الرئيس باراك اوباما إعلان موقف نهائي حيال الحرب الأهلية في سورية.
يقول المراقبون إن الدولة التركية الحديثة تتوقع من سورية والعراق وإيران معاملة شبيهة بالمعاملة التي طلبها فريد باشا من باريس قبل مئة سنة.
وقد حظي هذا الاستنتاج بموافقة الدول التي تعاملت مع رئيس وزراء تركيا الحالي أحمد داود اوغلو، مُنَظّر مرحلة الانفتاح على فضاء الشرق الأوسط.
والثابت أن اردوغان استبعد صديقه ورفيق دربه عبدالله غل، واستعاض عنه بمستشاره اوغلو. والسبب أن غل رفض مبدأ تقسيم سورية خوفاً من انتقال العدوى الى بلاده… وأنه سعى الى منع تدهور العلاقات السياسية مع مصر، خصوصاً بعدما ادّعت أنقرة أن دفاعها عن الاسلام السنّي يفوق دفاع القاهرة.
ومن أجل تأمين هذا النهج السياسي، قرر اردوغان القيام بخطوات تكتيكية من شأنها إضعاف جارتيه، سورية والعراق. وعليه، فضَّل التعامل مع الاسلاميين المعتدلين في سورية… ومع التركمان والسنّة في شمال العراق… ومع مسعود بارزاني في كردستان، رئيس الحزب الديموقراطي.
وبما أن اردوغان يحاول تقليد ملهمه التاريخي كمال اتاتورك، فقد طلب من الاميركيين التعاون في رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد. كما طلب اعتماد بلاده، العضو في حلف شمال الأطلسي، المرجعية والبوصلة السياسية في المنطقة.
قبل اجتماع القادة العسكريين لدول التحالف في واشنطن، زارت الناطقة باسم الخارجية الاميركية، ماري هارف، رئيس الوزراء التركي أحمد داود اوغلو في أنقرة. واستعرضت معه مختلف جبهات القتال ضد «داعش»، على أمل إقناعه بضرورة الدفاع عن مدينة عين العرب المعرَّضة للاجتياح. وشعرت بالاستياء والإحباط بسبب تحفظه وانتقاده لأداء الجيوش العربية التي تملك أفضل الأسلحة الهجومية، والتي تدربت على مكافحة الارهاب مدة طويلة من الزمن. وأبلغها أن مسألة الأكراد تشكل «كعب أخيل»، أي نقطة الضعف بالنسبة الى حكومته.
وكان بهذا التلميح يشير الى التظاهرات الضخمة التي حشدتها جماعة عبدالله اوجلان – حزب العمال الكردستاني – في أنقرة وسائر المدن الكبرى. وقد واجهتها الدولة بإعلان حظر التجول وإنزال الجيش الى الشوارع بغرض فرض التهدئة ومنع الشغب.
كتبت الصحف الاوروبية تتهم اردوغان بالتحايل وخداع المجتمع الدولي، خصوصاً عندما وعد بإعادة مليون ونصف المليون كردي الى المواقع التي هربوا منها في سورية. ووصفت هذا الوعد بأنه «ابتزاز فاضح يرمي الى تطويع هذه الفئة من الأكراد المحسوبين على نظام الأسد».
وتزعم جماعة عبدالله اوجلان أن الرئيس التركي تساهل جداً في موضوع مقاومة «داعش» ومحاصرة كوباني، لأنه ربح من جهة أخرى أكراد سورية الذين منعوه من فرض منطقة عازلة تشبه المنطقة العازلة لأكراد العراق (1991). وهو يتصور أن قيام هذه المنطقة سيقود تلقائياً الى تقسيم سورية، أو الى انهيار النظام لمصلحة المعارضة المعتدلة التي جعلت اسطنبول مركزاً لنشاطاتها.
وفي هذا الأسبوع، صدت قوات البيشمركة الكردية هجمات لتنظيم «الدولة الاسلامية»، وسط أنباء عن تحصّن «الخليفة» أبو بكر البغدادي في قضاء الحويجة. وقد شاركت قوات الجو الاميركي في عملية القصف، بعدما انتشرت معلومات استخبارية تشير الى وجوده في تلك المنطقة. ثم تبين لاحقاً أن «داعش» هو الذي عمَّم هذه الأنباء المضلِلة بغرض إحداث بلبلة داخل كردستان، ومنع العرب والأجانب من العمل فيها.
وتشير المعلومات الى وجود نحو ثلاثين ألف لبناني في مدن كردستان. وقد ازدادت أعدادهم عقب التسهيلات التي منحتها حكومة مسعود بارزاني، والخدمات المصرفية والسياحية والإعمارية التي شهدتها أربيل والسليمانية وداهوك وكركوك. وتتركز مختلف القطاعات في أربيل حيث تظهر يافطات: بنك بلوم (لبنان والمهجر)، وبنك عودة، وبنك بيبلوس، وبنك البحر المتوسط، وفرنسبنك، وبنك بيروت والبلدان العربية، وبنك انتركونتننتال، الخ.
أما الشركات التجارية والصناعية والخدماتية فكثيرة، بينها: وكالات السجاير، اندفكو (شفيق افرام) جان فتال، أولاد جورج أبو عضل، يارد، وردة، دار الهندسة، خطيب وعلمي، شركة زوزيك، الشركة العربية للمقاولات (ميقاتي). كذلك قام اللبنانيون بتأسيس فنادق عدة من الدرجة الأولى، إضافة الى فتح مطاعم تقدم المازة مثل «الصفدي» و «الأفندي».
ومن زوار أربيل الدائمين الرئيس السابق الشيخ أمين الجميل والدكتور سمير جعجع. وقد زار البطريرك الماروني بشارة الراعي أربيل لتقديم الشكر الى المسؤولين في كردستان على حسن استقبالهم لمسيحيي الموصل.
وبين الأخبار، التي طغت على أخبار «داعش» هذا الأسبوع، كان الهجوم الثاني الذي قام به الحوثيون على الحديدة، عقب استيلائهم على العاصمة صنعاء. وبما أنهم لا يتحركون، ولا يتمددون، إلا بإذن طهران وتوجيهاتها السياسية، فإن سيطرتهم على معظم المحافظات اليمنية الشمالية تُعتَبَر المدخل الوسيع لإحكام قبضتهم على كل اليمن الشمالي.
ويعزو المراقبون توقيت هذه الخطوة الى التنازلات التي قدمتها الولايات المتحدة لتركيا، الدولة الطامحة الى عقد معاهدة سلام مع «داعش»، والى إسقاط نظام الأسد. وفي الحالين، تكون ايران هي الخاسر الأكبر.
لهذه الأسباب وسواها، يرى المحللون أن تحويل اليمن الى ساحة جديدة للصراع الايراني – السعودي – الاميركي – الخليجي سيضمن للجمهورية الاسلامية الاستيلاء على أربع عواصم عربية هي: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
قبل أربعة أشهر، طلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من الحكومة الايرانية أن تتعامل مع الشعب اليمني على أساس المنطق والمساواة، من دون أن تفرِّق بين شيعي وسنّي. ورداً على ذلك التصريح، أعلنت الحكومة الايرانية أنها لا تريد سوى الخير للشعب اليمني. كذلك دعم المرشد الأعلى علي خامنئي التمدد الحوثي، الذي وصفه الرئيس حسن روحاني بأنه «نصر باهر… وشجاعة كبيرة».
وعلى ضجة هذا الاختراق، استيقظ اليمن الجنوبي ليطالب أمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون بضرورة إعلان استقلال الجنوب عن الشمال. كما طالب الرئيس السابق علي سالم البيض باستعادة المقعد في المنظمة الدولية، الذي حصل عليه في 12 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1967.