إكس خبر- كان يكفي أن يقذف لاعب عربي(؟) كرة بقدمه في مباراة عالمية حتّى تهبّ الجماهير العربيّة بأكفّها وحناجرها حتّى السماء . وكان يمكن فهم طموح العرب المسكونين بالهزائم إلى نصرٍ يتيم ولو جاء على هذا المستوى . ماذا تغيّر؟ توزّعت النبرات والكتل العربيّة الحماسية في أكثر من اتّجاه عربي وعالمي . لماذا؟ لربّما بسبب تداعيات العولمة الإعلامية التي نسيناها كمصطلح وعلقنا بأفخاخها الوهمية وتداعياتها التي جعلت القضايا الشخصية والقومية والعربية والإقليمية والعالمية تتشابك وتتداخل إلى حدود يستحيل فهمها أو تفكيكها . ماذا تغيّر أيضاً؟ لم يتغيّر شيء في موضوع الهزائم المتلاحقة ومظاهر الانحطاط التي تعبث في أرض العرب وتقوى مع تداعيات “ثوراتهم” ومحاصرة مبادئهم وأحلامهم وانتظاراتهم الكروية الأشكال والأهداف .
في لبنان مثلاً شهدنا تغييراً ملحوظاً في سلوك جماهير كرة القدم . كانت الحماسة التاريخية تنقسم بين البرازيل حيث يقطن ضعفا سكّان لبنان من المغتربين وغيرها من الدول، لكنّها ضعفت فبدت البرازيل وكأنها دولة من دول العالم الثالث قد تدفع ثمن نشاطها في منظومة دول “البريكس” المناهضة للأحادية الأمريكية . وبرزت الغرابة في الحماسة الميتة لمنتخب الجزائر مثلاً والزندفاع نحو ألمانيا الذي تضاعف مع المباراة نصف النهائية وسقوط البرازيل الذريع . وهنا سؤال: لماذا رفع الكثير من اللبنانيين علم ألمانيا، وودّعوا منتخب الجزائر الذي خرج من بطولة كأس العالم مرفوع الرأس بهزيمته أمام المنتخب الإلماني بطل العالم لثلاث مرات؟ قد نفهم الحماسة العربية لألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية لكن كيف نحلّل سلوك وتعليقات من كانوا يطلقون العنان لخيالهم صارخين أمام الشاشات: آه، لو ربحت ألمانيا الحرب العالمية الثانية! ماذا كان يحصل؟
الجواب كان خيالياً أيضاً وبسيطاً هو: انقضاض هتلر على بريطانيا وتوكيل اليابان بالولايات المتحدة ونهاية اليهود عن وجه الأرض يعقبهما خلاف ألماني – ياباني يتكفّل بتحويل الأرض نووياً إلى خربة خالية . هذا الجواب قد يرفع الكثير من الأغطية عن المخزون الثقافي والسياسي الذي يتراكم في لا وعي الشعوب ليتدفّق أمام الشاشات أصواتاً ومشاعر صادقة لو تفهمها أو تريد فهمها الدول العظمى والأمم المتّحدة والمنظّمات الدولية لقصرت دروب الطرق الوعرة نحو السلام العادل والشامل: القهر “الإسرائيلي” والأمريكي المقيم في النفوس العربية عبر التاريخ يصعب تحديد حجمه .
وقد يعيدنا هذا الجواب لبنانياً إلى مؤتمر القمة العربي في العام 1989 والذي أوكل إلى ممثلي الجزائر والسعودية والمغرب كلجنة ثلاثية عليا مهمّة التمهيد والمساعدة والإشراف على إنهاء الحرب اللبنانية بهدف الوصول إلى اتّفاق الطائف . يومذاك سألت زعيماً عربيّاً عن سبب تسمية هذه البلدان الثلاثة وليس سوريا أو غيرها مثلاً فأجاب: القضية ليست عفوية . سوريا أصبحت طرفاً صعباً والسعودية تتكفّل بالتفاهم معها ولديها اهتمام تاريخي كبير بلبنان، والمغرب صاحبة مرجعية واسعة ولها صوت إقليمي ودولي مسموع، أمّا الجزائر فتعني الكثير للثوريين والمقاتلين في لبنان وبها يتماهون، وهي بذلك تسهّل التفاهم وتخفيف الإدرينالين من نبرتهم الثورية الحادة في لبنان . منذ ذلك التاريخ اكتسح الفكر الثوري الكثير من الذبول والتراجع في لبنان، وخفّت نبرة الثوّار اللبنانيين التقليديين الطامحين إلى تغيير النظام اللبناني والعربي، وحلّ مكانها نبرة مقاومة “إسرائيل” ومناهضة أمريكا والغرب . وأعمق من هذا كلّه، اكتسح جمهور 8 آذار حماسة هائلة لألمانيا جعلنا نراها وكأنّها مجدّداً بين “إسرائيل” وحزب الله وهو ما فاض في حماسة سلوك 14 آذار لألمانيا على الرغم من الانقسامات السياسية بين التيارين . نتذكر ألمانيا دولة واقفةً تعمل بسرّية تامّة بين “إسرائيل” كدولة غير محددة بعد والمقاومة التي تستعيد ألمانيا أسراها وأسرى عرب آخرين من السجون “الإسرائيلية” باحترام كبير .
والمعروف أنّ ملفّي تبادل الأسرى بين المقاومة والعدوّ الصهيوني قد خلصا إلى نهايتهما الرائعة في 2004 و2008 برعاية ألمانية فائقة السريّة والإحكام . تلك معادلة جديرة بالتوقّف عندها في زمن الأورو متوسطية، حين تحول خطّ العداء الأوروبي من الشرق المستيقظ أرثوذكسياً إلى الجنوب المستيقظ إسلامياً . يمكن الاستطراد هنا بالقول إن “إسرائيل” بانتصاراتها التاريخية على العرب، كادت أو كانت تعوّض عن هزائم اليهود واضطهادهم القديم وتشتتهم وخصوصاً من ألمانيا النازية فتستمرّ في التعويض على أنقاض الركام العربي، وعلى الرغم من اعترافها منذ إنشائها بهزيمتها في 2000 و2006 .
تجذب ألمانيا الحماسة فيما يتجاوز عطف الجماهير ومعرفتهم، كونها تعشق الأسرار والألغاز كما “إسرائل” وكما المقاومة، وللأسرار سلطاتها الهائلة في علوم السياسة وتنسيق الاستراتيجيات . سبق وأن أغلقت ألمانيا الأبواب على نفسها بحثاً عن أسباب هزيمتها في الحرب العالمية بعدما هبّت من عقل فريديريك نيتشه الذي افتتح القرن العشرين بتطاوله على الفكر الديني، معلناً عام 1900 في كتابه “هكذا تكلّم زرادشت” فكرة الإنسان المتفوّق أو “السوبرمان” الذي اتّخذ شكله الواقعي في الأفلام الأمريكية والشاشات المتنوعة في ألعاب الكرة وغيرها وألهب مخيلات الشباب في المعمورة . لكن صورة ألمانيا تنحصر اليوم بين نازيتين مغرقتين في المغالاة: القديمة في اضطهاد اليهود الذين استثمروا اضطهادهم، والحديثة في معاداة العرب وملاطفة اليهود والبحث عن تنقية التاريخ ممّا علق به من الحقد اليهودي، وما بينهما دولة محكومة بعلوّ الصوت اليهودي الذي يخلق مساندةً سياسية أو صمتاً رسمياً في أحيانٍ كثيرة حيال تحويل الفكر والممارسات المشابهة للنازية إلى مختبر تطبيقي في فلسطين عنوانه الأبرز: التماهي بالمعتدين .