لايحرص كل من الأم والأب أن يدخلا «مدرسة التثقيف» في عالم طفلهما، وما يحتاجه وما قد يتعرض إليه مستقبلاً، حيث يقررا دائماً إنجاب الأطفال دون التزود بوسائل وأساليب تثقيف الطفل دينياً أو نفسياً أو صحياً، فيكبر الطفل مثقلاً بسوء تدبير الأسرة تجاهه، ودون الإلمام العميق بما يفكر به خلال مراحل حياته المختلفة، وبما يحتاجه بعيداً عن المأكل والمشرب.
في هذا التحقيق نتناول كيف نربي الطفل على الثقافة الدينية بالشكل الصحيح..فكراً وممارسة؟، وذلك في وقت أصبح فيه الانفتاح والعولمة حاضران في جميع مظاهر الحياة، ثم كيف نخلق من هذا الطفل مثقفاً دينياً بعيداً عن التطرف والانغلاق، ومتحضراً ومنفتحاً في آن معاً؟، وكيف لنا أن نعزز من الوعي بنفسية الطفل، دون أن يسقط الكبار عليهم رواسبهم الشخصية فتنعكس عليهم سلباً؟، وكيف من الممكن أن يتخطى الوالدان صعوبة التعامل مع الطفل المريض بأمراض وراثية؟.
صفحة بيضاء
يشير المفكر الإسلامي «زين العابدين الركابي» إلى قول «هنري برجسون»: «إن الإنسان يولد صفحة بيضاء ثم يتلقى معارفه ممن حوله ومما حوله»، مضيفاً أن هذه ملاحظة تربوية عميقة وصائبة، ثم إنها مسبوقة بحقيقة قالها خالق الإنسان سبحانه وتعالى:(والله أخرجكم من بطون أماتهكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)، فالآية تقرر أن الإنسان يولد بلا علم ولا معرفة، ثم يتلقى تعليمه ومعارفه بعد أن يولد عبر أدوات المعرفة الذاتية وهي السمع والبصر والفؤاد، ولئن لاحظ «برجسون» هذه الحقيقة القرآنية، فهذا دليل على أن العقل الإنساني حين ينشط ويتجرد للبحث وطلب الحقيقة يؤتى مقادير من المعرفة الصحيحة الصائبة، ويترتب على حقيقة أن الإنسان يولد بلا علم ولا معرفة مسؤولية كبرى، وهي أن تكون المعرفة المقدمة إليه صحيحة غير خاطئة، سوية غير معوجة، مفتحة لمواهبه غير كابتة لها، مشيراً إلى أنه إذا تلقى معرفة من هذا النوع -في البدء- نشأ طفلاً سوي التكوين في نفسه وعقله وسلوكه، ثم أصبح -من بعد- إنساناً ناضجاً راشداً، ذكراً كان أم أنثى والعكس صحيح، بمعنى أن التكوين غير السوي للطفل مرده إلى تعليم عقيم ومعرفة عرجاء عوراء.
ثقافة الوالدين
وأوضح «الركابي» أن الأسرة هي أول محتضن تربوي معرفي للطفل، ولكي يتلقى الطفل ثقافة دينية صحيحة المصدر معتدلة المنهج، لا بد أن تكون أسرته ذات ثقافة دينية من هذا النوع، وإلاّ فإنه يستحيل أن يجود المحروم بما حُرم منه، مضيفاً: «ينبغي التصريح بأن الفتيات والشباب يتزوجون وليس لديهم أي معرفة عن الشروط العلمية التربوية لتربية الطفل، وهذا الجهل سبب عميق من أسباب التخبط لدى الأسرة والانحراف لدى الناشئة، ولعله من الملائم اقتراح دورات للمقبلين على الزواج يتلقون فيها مناهج تنشئة الطفل والتعامل معه ومراعاة ميوله، وترشيد استعداده، وتعويد لسانه على النطق السليم ولو في لفظ (ماما) و(بابا)، ومفردات الطعام والشراب إلخ»، لافتاً إلى أنه من التربية الدينية القويمة أن يذهب الطفل مع أبيه أو أمه إلى المسجد، وإلى المشاركة في أعمال الخير في الحي أو المدينة وأن يعوداه (الأب والأم) على مطالعة عناوين الكتب المفيدة وقراءتها، وفي مقدمتها القرآن وكتب الحديث، كما يعودانه على اتباع السنة في المأكل والمشرب والملبس، والتعامل مع كبار العائلة، ذاكراً أن من اللوازم الضرورية لتنشئة الطفل تنشئة دينية سوية، غرس مفاهيم التدين الحق في عقله وضميره، وفي طليعة هذه المفاهيم أن قيم الإسلام رحمة لا قسوة، ولين لا شدة، ورفق لا عنف، وبهجة لا حزن، وجمال لا قبح.
مراحل نمائية
وقبل أن نعزز من الوعي بنفسية الطفل في مراحله المبكرة، يؤكد «د.خالد بازيد» استشاري الطب النفسي -تخصص أطفال ومراهقين كلية الطب جامعة الملك سعود-، أنه لابد من التعرف على مراحل الطفل النمائية أو مراحل النمو خلال السنوات العمرية، فهي المفتاح الذي يمكن من خلاله أن يعرف الكبير كيف يتعامل مع الصغير؟، مبيناً أن الطفل يقدمه العلماء حسب المراحل العمرية إلى أربعة أقسام رئيسية، فالمرحلة الأولى تتمثل في مرحلة الحضانة، وتبدأ منذ ولادة الطفل وتنتهي على نهاية السنتين الأوليين، والتي يتخللها الرضاعة الطبيعية في أغلب الأحيان، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الطفولة المبكرة أو ما قبل التميز، وتتمثل في السنة الثالثة حتى السنة الخامسة من عمر الطفل، ثم تبدأ مرحلة التميز أو ما تسمى ب»الطفولة المتأخرة»، ثم تأتي مرحلة المراهقة والتي تقسم بدورها أيضاً إلى ثلاث أقسام مرحلة مراهقة مبكرة، ثم متوسطة ثم متأخرة، والتي تنتهي في سن 25 سنة تقريباً، مشيراً إلى أنه في كل مرحلة هناك عدة خصائص رئيسية لابد من الالتفات إليها، والتي من أهمها النمو الجسدي وهي نمو العضلات والعظام والأجهزة الداخلية والقلب والكبد وغيرها، ثم النمو النفسي والنمو المعرفي والنمو الاجتماعي ثم البعد الديني الروحي، والبعض يدرج النمو اللغوي من ضمن المعرفي العقلي، ويدخل فيها القدرات واتخاذ القرارات المناسبة وغيرها.
الرضاعة الطبيعية
ولفت «د.بازيد» إلى أن الإيقاع السريع للحياة أصبح له تأثير سلبي على نمو الطفل، حيث انعكس ذلك على سرعة النمو والتواصل، فلم يعد هناك صبر في تعاطي الكبير مع الطفل، فالكبار كثيروا الانشغال بأسباب أو دون أسباب، بالإضافة إلى ضعف وجود الأسرة الممتدة والمتمثلة في الوالدين والأشقاء والجدة والخال والعم، والتي كان لها دور كبير في تأهيل الطفل، مشدداً على أهمية الرضاعة الطبيعية، خاصة في السنتين الأوليين من عمر الطفل، والتي قد تضطر الأم لقطعها لظروف عملها أو لأي أسباب أخرى، لتنسى بأن الرضاعة الطبيعية لا تمثل الغذاء بالنسبة لطفل، وإنما مناعة واستقرار ذاتي، فهو في مراحله الأولى يعيش مرحلة ذهبية لتنمية الاستقرار النفسي لديه، بل حتى إن اضطرت الأم لقطع الرضاعة فلابد أن تكون الرضاعة الصناعية بأسلوب الاحتضان والتواصل البصري لتمنحه الشعور بالأمان، مبيناً أن هناك حكمة عظيمة من تأخر الطفل في الكلام على الرغم من أنه يسمع ويبصر منذ كان في بطن أمه، وذلك لأنه يحتاج أن يسمع كثيراً عن مرحلة ما قبل المراهقة، والتي يكتمل فيها نمو الطفل وقدراته العقلية، حيث يكون قادراً على التحليل والتفكير العميق، وأن كمية بناء الشبكات العصبية التي لم تتكون في السنوات الأولى تكون في هذه المرحلة مذهلة، حيث يبدأ المخ يرتب هذه الخلايا العصبية التي كان يقوم بها الطفل بالتخزين، ولذلك فإن الطفل في مرحلة التميز يحتاج إلى تكوين العلاقات والصداقات، ويتحدث بلغة تعبر عن احتياجاته الخاصة، مشيراً إلى أن هناك بعض الأخطاء التي يقترفها الوالدان في هذه المرحلة، والتي تتمثل في الحماية الزائدة للطفل حيث يخرجه معوقا اجتماعيا، أو ربما كان الوالدان غير مباليين، فيتعلم من الشارع دون رقابة،
ذكاء عاطفي
وعن الأمور التي قد تؤثر في شخصية الطفل وتخلق منه طفل بسمات شخصية محددة كأن يكون شجاعاً أو صادقاً أو حساساً أو خائفاً أو متردداً أو غيوراً، فإن «د.بازيد» يرى أن الوراثة تتدخل في تلك السمات فتحددها، كذلك البيئة التي قامت بتربية الطفل، فكلما كانت البيئة واضحة المعالم، انعكس ذلك على شخصيته، وكذلك الاستقرار الأسري، فوجود أب يتعاطى المخدرات ويثير المشاكل، له أثره على اضطراب شخصية الطفل، وكذلك الناحية المادية كوجود الفقر -على الرغم من وجود بعض الأسر الفقيرة التي استطاعت ضبط أطفالها بشكل جيد بسبب حسن إدارتها-، مشدداً على ضرورة وجود الاهتمام من قبل الوالدين بمهارة التعامل مع الأطفال، حتى لا يكون هناك ازدواجية في التعاطي معه، كما لابد أن يكون اهتمام بالأسرة الممتدة والتي يسهم وجوده في تشكيل نفسية الطفل السليمة، كما أن هناك عوامل خارجة عن إرادة الأسرة تسهم في هدم شخصية الطفل، كالإعلام والشارع والمدرسة غير الجيدة والألعاب التي يتناولها، موضحاً بأن تنمية الذكاء العاطفي لدى الطفل يعتمد على الاهتمام بكل ماتقدم، فالذكاء العاطفي يعني المهارة الفائقة في التعامل مع المحيط والقدرة على التواصل الفاعل في التخطيط للمستقبل والتعامل مع الحاضر والاعتبار من الماضي، وذلك يستلزم أن يعيش الوالدان معه منذ أن يخلق حتى آخر لحظة في كل تفاصيل حياته، ومعرفتهما كيف يتعاملون معه في جميع مشكلاته؟، إلى جانب تعليمه جميع ما يهمه في الحياة من احترام الآخر والنجاح في العلاقات والصداقات، بحيث ينمو الطفل بنفسية مستقرة دون خوف.
الفحوصات الوراثية
وعلى الرغم من أن الوعي بثقافة الطفل النفسية أمر بالغ الأهمية، إلاّ أن صحة الطفل ونموه إذا رافق مولده أمراض وراثية، فإن الأب والأم يجدان أنفسهما أمام عالم يجهلان تفاصيله والخوض في تفاصيله، فيأتي هنا ضرورة إحاطة إجراء الفحوصات الوراثية التي يخضع إليها الزوجان قبل الزواج، والذي مازال يجد امتعاضاً لدى البعض بالرغم من أهميته، حيث تشكل الأمراض الوراثية على طفل مولود تأثيراً كبيراً على حياته حينما ينجب، ذكرت ذلك «د.روضة آل سنبل» استشارية علم الجينات والأمراض الوراثية الإستقلابية، حيث ترى بأنه قد يشاء القدر أن يولد بعض الأطفال مصابين ببعض التشوهات الخلقية المتعلقة بالتمثيل الغذائي، أو قد يولد هذا الطفل بصحة جيدة ولكنه يعاني من أحد الأمراض الوراثية التي تظهر بعد مرور أيام قليلة أو أشهر، هذه الأمراض تؤثر على حياتهم وحياة الأبوين وكذلك الأطفال الآخرون في العائلة، مضيفةً أنه تمثل نسبة الإصابة بالتشوهات الخلقية (2-4%) من المواليد، ويكونون نسبة كبيرة من الأطفال المنومين في المستشفى، حيث يكون ما يقارب (30%) من الأطفال المنومين لديهم تشوهات خلقية أو أمراض وراثية، هذه الأمراض تؤثر على حياتهم وحياة الأبوين وكذلك الأطفال الآخرون في العائلة، لافتةً إلى أن ذلك يحدث عند التقاء النطفة الذكرية «الحيوان المنوي» بالنطفة الأنثوية «البويضة» فيتكون خلية ملقحة تحوي 46 مورثة صبغية، 44 منها هي المورثات أو «الكروموسومات» الجسدية وX-Y) 2) هي الكروموسومات الجنسية المسؤولة عن تحديد جنس الجنين، تحتوي هذه المورثات الصبغية على عدد كبير من الجينات الوراثية ما يقارب عددها 25 ألف جين، هذه الجينات نتوارثها من الوالدين وهي تحوي جميع الصفات الوراثية، ذاكرةً أن الأمراض الوراثية تنتج من خلل في عمل إحدى هذه الجينات، فقد يختص جين واحد بمرض واحد، أو قد ينتج المرض الواحد من أي خلل في عدد من الجينات، ونتوارث هذه الأمراض إما عن طريق الجين السائد -أن يرث من أحد الأبوين فقط-، أو الجين المتنحي -أن يحتاج إلى أن يرث الخلل الوراثي في كلا الأبوين-، أو عن طريق ال x «كروموسوم».
تشوهات خلقية
وأوضحت «د.روضة آل سنبل» أن هذا الخلل الجيني ينتج عن أمراض بعضها تؤدي إلى تشوه خلقي، وبعضها يؤدي للإصابة بالأمراض الوراثية الاستقلابية -أمراض التمثيل الغذائي-، مضيفةً أن التشوهات الخلقية قد تطال عضواً واحداً فقط، أو قد تصيب عدة أعضاء وأجهزة في الجسم، وأيضاً قد تؤثر على نمو الطفل الذهني فيصبح الطفل متأخراً ذهيناً، مشيرةً إلى أنه تختلف شدة هذه الإعاقة على حسب المرض، فبعضها يؤثر على شكل ومظهر الطفل فقط، لكنه يكون سليم العقل والذكاء، ولكنها سوف تؤثر نفسياً على هؤلاء الأطفال، فيكونون بحاجة إلى الرعاية الصحية وأيضاً النفسية من قبل العائلة ومن قبل الأطباء وطاقم المستشفى، ذاكرةً أنه يتم الكشف عن هذه التشوهات قبل الولادة أثناء متابعة الأم في فترة الحمل أو بعد الولادة مباشرة، ويحتاج هؤلاء الأطفال إلى فريق طبي لفحصهم وتشخيصهم، ومن ثم رعايتهم بالطبيب المختص المناسب، لمحاولة علاجهم إن كان هناك علاج، إذ إن بعض هذه التشوهات تكون خطرة وقد تؤدي إلى الوفاة، أما بالنسبة للأمراض الاستقلالية الوراثية -أمراض التمثيل الغذائي – فمعظم هؤلاء الأطفال يولدون كأطفال أصحاء، وقد يعاني البعض منهم من بعض تشوهات خلقية، وأن أعراض المرض تظهر في الأيام القليلة أو الأشهر الأولى من العمر، وفي بعض الأحيان الفشل في التشخيص المبكر قد يؤدي إلى إصابة الطفل بإعاقة عقلية وجسدية، أو قد يكون المرض شديداً وخطيراً يؤدي إلى وفاة الطفل، ويكشف عن هذه الأمراض في برنامج الوطني لفحص المواليد الذي يقام في بعض المستشفيات، حيث يهدف إلى اكتشاف وتحديد بعض الأمراض الاستقلالية، وكذلك بعض أمراض الغدد الصماء، موضحةً أنه تكتشف بعض هذه الأمراض بفحص قطرة دم من المولود خلال الأيام الأولى من حياته، حيث يساهم في علاجهم بشكل سريع وفعال، فيتجنب بذلك التخلف العقلي والإعاقة الجسدية، بالإضافة إلى أن الطبيب قد يساهد العائلة في معرفة كيفية توارث هذا المرض ونسبة حدوثه في الحمل المقبل، ومعرفة الجين المورث في المرض، كما يعطي الفرصة للعائلة للكشف أثناء الحمل، ويعطيها الخيار بإجراء الكشف قبل الحمل في البويضة الملقحة ما يسمى (PGD)، وذلك عن طريق أطفال الأنابيب، وبذلك يكون قد حصل الأبوان على فرصة للحصول على طفل سليم خالٍ من المرض.