حقق برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث «فرصة العمر» لكثير من لطلاب والطالبات المبتعثون إلى عدد من الجامعات في بعض الدول المتقدمة والمتخصصة. وساهم البرنامج في تغيير تجربة حياتهم العلمية والثقافية، من خلال الاندماج في محيط تعليمي جديد، وثقافة اجتماعية متعددة؛ بما يسهم في فتح الأفق الفكرية والمعرفية أمامهم.
وعلى الرغم من «الحسنات الكبيرة» لهذا البرنامج، والنقلة النوعية لتنمية الإنسان وإعداده لمستقبل الوطن في جميع التخصصات؛ إلاّ أن معظم الطلاب المبتعثين لا يزالون متخوفين من مصير العودة بعد الابتعاث، ومصدر هذا الخوف هو في الحصول على وظيفة مناسبة لتخصصهم، وطموحاتهم، وتضمن لهم مزايا ومردودا ماليا مميزا يعوض لهم فترة السنوات الطويلة التي قضوها في الخارج.. ولكن «الصدمة» أن ينتظرهم واقع آخر محبط؛ لأن القطاع الحكومي لا يمكن أن يستوعب هذا العدد الكبير من المبتعثين خلال السنوات الخمس المقبلة، وبالتالي القطاع الخاص قد لا تتوفر لديه الإمكانات الكافية لمنح مرتبات وحوافز مالية مغرية، وهنا نكون أمام مفترق طرق نحتاج فيه إلى «لجنة تنسيق» بين الجامعات والجهات المعنية كوزارة العمل والخدمة المدنية والغرف التجارية لوضع «خارطة» لهذا الطريق تنظر بواقعية إلى حدود وإمكانات وظروف سوق العمل، وسد الفجوة الكبيرة لدى الطلاب المبتعثين الذين قد يعودون ويبدأون رحلة البحث عن عمل، وفعلاً هناك من بدأ في هذه الرحلة؛ ليس لأنه لم يجد عملا، ولكن لم يجد عملا يناسب تخصصه وإمكاناته، وربما طموحه..
والسؤال إلى أي مدى تؤثر هذه المخاوف على المبتعثين أثناء البعثة وبعد العودة إلى المملكة؟، وهل هناك تنسيق لاحتواء هذه الأعداد في سوق العمل رغم أزمة البطالة والتضخم؟.
عدد من الأكادميين والمختصين وجدوا أن الفرص الكبيرة للطلاب المبتعثين قادمة وإن نقصها التخطيط قبل الابتعاث، حيث يجدون أن الرؤية الجديدة في إيجاد فرص وظيفية للمبتعثين ستبدأ مع وجود المتغيرات الكبيرة التي طرأت على المجتمع؛ ليس في مستوى مناقشته وطرحه وتعاطيه مع قضاياه العامة، بل كذلك في التخطيط لإيجاد مستويات متعددة من العمل في القطاع الحكومي والخاص قد تستوعب تنوعات التخصصات التي سيأتي بها المبتعثون بعد عودتهم، فهل يكون الوقت كفيلا بنزع تلك المخاوف في مصير المبتعثين بعد العودة؟، أم أن ما يثار من ضرورة أن يكون هناك تخطيط مسبق من قبل وزارة التعليم العالي، وكذلك وزارة العمل وبعض الجهات في تحديد التخصصات المطلوبة والفرص المتاحة بما يتناسب مع أعداد الطلاب الكبيرة أمر ملح وبالغ الأهمية؟.
لا تنتظر الوظيفة!
في البداية يرى مدير جامعة الباحة “د.سعد محمد الحريقي” أن برنامج الابتعاث جاء هادفاً لرؤية جديدة في تنمية الموارد البشرية في المملكة، خاصة أن المملكة خطت خطوات واسعة في الآونة الأخيرة، إلاّ أن المطالبات بتقديم حلول توفير الوظائف للمبتعثين لا بد ألا يتركز فقط على القطاع الحكومي، بل ان الفرص كبيرة في القطاع الخاص، وكذلك في المشروعات المستقلة لسوق العمل، فالمملكة إذا ماقورنت بفترات سابقة نجد أنها قفزت قفزات كبيرة من حيث التطور.
وقال:”إن هذا التطور لم يكن ليصبح موجودا لولا وجود الكفاءات العلمية بدعم الدولة في كافة مجالات التخصصات، سواء الطبية أو الهندسة وغيرها من التخصصات، مشيراً إلى أن فرص العمل موجودة؛ لكنها تحتاج إلى توعية الشباب في الوقت الراهن للدخول في مجالات أخرى، مضيفاً أن الشاهد على احتياج سوق العمل لتخصصات جديدة العمالة الوافدة التي تأتي بها الشركات وتدفع لهم مبالغ كبيرة حتى يقدموا خبرتهم، وربما وجد البعض برواتب قليلة قد لا تفي بمستلزمات استقدامهم، إلاّ أنهم يعملون في مشروعات خاصة ويطورون مستواهم حتى يعودوا بثروات طائلة، مؤكداً على أن الفرص الوظيفية موجودة، ولكن ذلك يعتمد على النظرة للفرص الوظيفية، فعلى العائد من الابتعاث ألا ينتظر الوظيفية الحكومية، بل لابد من اغتنام فرص القطاعات الخاصة وهو توجه موجود.
استغلال الوظيفة
وأشار “د.الحريقي” إلى تجربة “جامعة الباحة” في عقد اتفاقية مع مدينة الملك عبدالعزيز ضمن المشروعات الرائدة؛ والمتمثلة في دراسة المشروعات الاقتصادية للشباب، والتي يمكن أن يدخلوا بها ومساعدتهم مالياً واستشارياً، حيث تبدأ صغيرة وقد تتحول إلى مشروعات كبيرة، موضحاً أن هذه البعثات التي سعت الدولة لإيجادها تقوم على دراسة من حيث تحديث المجالات العلمية الواجب توفرها وتشجيع المبتعثين على دراستها؛ فنجد الغالبية الكبرى من المبتعثين في الفترة الأخيرة توجهوا لدراسات عليا أو طبية أو هندسية وهذه من التخصصات الهامة التي مازالت المملكة بحاجة إليها بشكل كبير، وحتى إن وجدت التخصصات التي قد لا تكون لها الأولوية الكبرى في سوق العمل، ولكنها تمثل إيجاد فرص تعليمية للشباب فهو أمر تشكر عليه حكومة خادم الحرمين الشريفين، حيث منحت الفرصة للشباب أن يتعلموا بشكل جديد، ويصبحوا من العاملين المنتجين في التنمية؛ فالمسألة متعلقة بالوقت، وعلى الشباب أن يعوا أن فرص العمل ليست محصورة في الوظيفة الحكومية، وإنما هناك قطاع خاص، والكثير من الفرص الاستثمارية في المملكة والتي لا بد أن تُستغل والتي حتى الآن الشباب لم يستغلها كما يجب؛ فالقطاعات الحكومية مهما ضخ فيها فإنها تبقى محدودة، أما الشركات الخاصة فإنها تنظر للكفاءة والربح، وبالتالي فإن المنافسة تكون عالية جداً، كما أنه يستوعب الكثير من العاملين، مشيراً إلى أن هناك صندوق دعم المشروعات التي من الممكن أن ينطلق منها المبتعثون في بدء مشروعات من الممكن التوسع بها خاصة مع وجود نماذج لتجار بدأت تجارتهم صغيرة وأصبحوا من كبار التجار؛ فالفرصة موجودة خاصة أن المملكة مقبلة على مرحلة تنموية كبيرة ولابد أن تستغل بسواعد أبناء الوطن.
المهارات أهم من الشهادة!
ولا تجد عضو سيدات الأعمال العرب وعضو مجلس الغرف التجارية بجدة “مضاوي الحسون” صعوبة كبيرة ستقابل المبتعثين والمبتعثات في مسألة توظيفهم بعد عودتهم، حيث تتوقع أن تتخاطف الوظائف على توظيف من يتعلم في الخارج ويعود بتقديم الرواتب العالية لهم، وذلك لامتلاك الطالب المبتعث السلاح الذي يحتاجه السوق، والمتمثل في اللغة الإنجليزية والتقنية والمعلومات؛ فمن لديه تلك المهارات فهو مرغوب ومطلوب على مستوى الوظائف، خاصة في ظل السعودة التي ترغب في توظيف السعودي ولاسيما المبتعث منهم، مشيرة إلى حقيقة وجود البطالة المقننة، حيث توجد الكثير من الوظائف المتوفرة في السوق، ولكن لا يقابلها الإمكانيات المرغوب بها في شغل تلك الوظائف؛ لأن جميع خريجي وخريجات التعليم كانوا ضحية لمنهجية التعليم غير المناسبة للسوق، في حين تمكن المبتعث من تملك المهارات والأدوات التي ستساعده على الحصول على وظيفة مناسبة بما يتناسب مع إمكانياته، مضيفة أن التخصصات التي تعلمها المبتعثون دون تخطيط مسبق لها فإنها تعتبر تكرارا للخطأ القديم، واستمرارا لمنهجية التعليم في المملكة، فلا بد أن يتم الابتعاث في مجالات يحتاجها السوق وفي بنية تحتية جذرية للغة والتقنين والمعلوماتية وهما مهارتان لا يمكن أن يتعلمهما الطالب في ثلاثة شهور أو ستة، بل لابد من الأربع سنوات وهي مدة الدراسة الجامعية؛ لذلك فإن الذي يعود لم يتقن الإنجليزية وتقنية المعلومات في الحاسب فإنه لن يجد الفرصة المناسبة، ففي الواقع جميع الشركات والقطاع الخاص تتبنى الذي يتقن هذه المهارات حتى انه أصبح يُبحث عنه، ومن هنا جاءت أهمية البحث عما يحتاجه السوق قبل الابتعاث، حيث يعيش الطلاب المبتعثون غربة حقيقية لا بد أن يُحضر لها بالإعداد من الداخل لدى الطلاب قبل ابتعاثهم، فلابد من إيجاد الدراسة التي تنطلق من مسمى “الدراسة التحضيرية” داخل المملكة قبل ابتعاثهم يتم فيها دراسة كل ما يتعلق بالطلاب، حيث تكون المنهجية ذات تركيز كبير، ولا تتعلق فقط بنوع التخصصات ونوع التعليم المقدم، بل كذلك في أساليب التكيف على المنطقة ذاتها في الخارج والتعرف على سلوكيات البلد وقوانينها انطلاقاً من حماية أنفسهم ووعيهم بأهمية دور السفارات واحترام عادات وتقاليد تلك البلد؛ فجميع تلك الأمور مهمة في إعداد الطالب والطالبة المبتعثة قبل ابتعاثهم، مؤكدة على دور المناطقية في تحديد الاحتياج من الوظائف، ففي جدة تتوفر الوظائف والفرص المتنوعة ليست فقط للشاب، بل كذلك للفتاة في حين يوجد بعض المناطق من تحرم مثل تلك الفرص للشباب فالمجتمعات هي من تفرض الضوابط على الأعمال، فالفتاة المبتعثة قد تجد صعوبة في بعض الأعمال التي تخصصت بها في الخارج فتعود في منطقتها لتقابلها الضوابط والشروط الصعبة لخروجها للعمل.
هاجس الرواتب المتدنية
ويرى أستاذ المساعد بقسم الإعلام بكلية الآداب جامعة الملك سعود “د.بكر محمد إبراهيم” أن الأعداد الكبيرة التي ابتعثت للدراسة في الخارج قد تسبب مشكلة كبيرة بعد عودتها؛ في حالة عدم توفير وظائف لها تستوعب ذلك العدد الكبير، إلاّ أنه يعتقد أن التخطيط موجود من قبل الجهات الرسمية في استيعاب هذه الأعداد في وظائف بعد عودتها، خاصة أن الدراسة قد تطول وتحتاج للكثير من الوقت الذي قد تستحدث فيه الكثير من الأمور، وذلك ينطبق على من يتوجه من الطلاب لإكمال دراسته العليا بعد الجامعة؛ فإن المدة قد تطول لثماني سنوات.
وقال:”إن توجه الدولة في بناء المراكز الإنمائية والمدن الإنمائية في شتى مناطق المملكة، مما سيستوجب ذلك احتياج أيد عاملة متخصصة وخطيرة، وربما يكون ذلك احدى النوافذ التي ستساهم في التخفيف من وجود البطالة في واقع المبتعثين، كذلك تطوير بعض الشركات المتعلقة بالبترول؛ كتطوير شركة سابك والتوسع الكبير الذي يخطط له من خلال المنشآت الاقتصادية الأخرى مثل ينساب وبترورابغ؛ فإنه من المتوقع أن تحتاج إلى أيد عاملة متخصصة وغيرها من المشروعات التي من المتوقع أن تحتاج لتخصصات المبتعثين، لا سيما إذا استمر ارتفاع البترول”.
وأضاف ان النماذج التي عادت من الطلاب ووجدوا صعوبة في التوظيف هم على شقين إما أنهم سافروا على حسابهم الخاص وهم قلة، أو من ابتعثتهم وزارة التعليم العالي واشترطت عليهم عدم توفير وظيفة لهم في حالة عودتهم، مضيفاً أن الذي سافر على حسابه الخاص وتعلم في الخارج فإنه لم يخطط له فيما يحتاجه سوق العمل من تخصصات، وهذه مشكلة صادفت الكثير من الطلاب المبتعثين الذين يعودون فيفاجأون بعدم الاحتياج لمثل تخصصاتهم، وهذه من أكبر المشاكل الموجودة، فكيف من الممكن أن يتصرف هؤلاء؟، محملاً حلول تلك المشكلة إلى ديوان الخدمة ووزارة التربية ووزارة التعليم العالي، حيث لا بد أن يقدموا الرؤية الجديدة فيما يتعلق بتلك المشكلة، وكذلك لا بد من تدخل وزارة العمل والمالية للاجتماع من أجل وضع بعض الحلول التي تؤدي إلى توظيف المبتعثين، موضحاً أن المشكلة الحقيقية التي ستقابل الطلاب المبتعثين بعد العودة هي الرواتب المتدنية؛ خاصة في القطاع الخاص فمقدار الراتب القليل لن يكفي لتحسين المعيشة لديه، وهنا يجيء دور القطاع الخاص والمتمثل في التخفيف من ضغط البطالة بتوظيف الشباب، فتلك مسؤولية وطنية على أصحاب القطاع الخاص تحملها والمشاركة في حلها.