مقال النهوض الروسي فرصة عربية – لا ترسم الدول سياساتها، تحديداً تلك التي تستحق أن تكون دولاً، باعتبارها جمعيات خيرية، أو شركات استثمارية، بل تنطلق من ثوابت الحفاظ على مصالح شعبها وأمنه ورفاهيته وسيادته على أرضه، ومن هذا المنطلق تتقاطع مصالح الدول، وتصل إلى حد التحالف، أو تتناقض لتصل إلى إعلان الحرب.
هذه البديهية لا تعمل بها بعض الأنظمة العربية، ليس لأنها متخلفة فقط ولم تسمع بها، بل لأن سياساتها تُرسم لخدمة مصالح الدول الكبرى التي تديرها وتوجّهها؛ تلك الدول التي كان لها اليد الطولى في صناعة تلك الأنظمة، وفي تأمين استمراريتها كحارس لمصالح الدولة الراعية، وخادم لسياساتها، حتى لو تناقض ذلك مع المصالح الوطنية لشعوب تلك الأنظمة، وهو ما نراه في وقاحة بعض الأنظمة العربية في انفتاحها وتنسيقها وتنشيط علاقاتها مع العدو “الإسرائيلي”، وفي تجاهلها العملي لما تعرّض ويتعرّض له الشعب الفلسطيني المظلوم منذ وعد بلفور، الذي تواطأ معه بعض الحكام العرب في الموافقة حينه لـ”إعطاء فلسطين لتكون وطنا لليهود المساكين”.
منذ زرع هذا الكيان الغريب في فلسطين، باتت كل أسباب القوة والمنعة والتقدم والحداثة ممنوعة على العرب، بل حتى الديمقراطية الحقيقية، حتى لا يشكلوا خطراً على وجوده واستمراره، ومارس الغرب بتعدد وجوهه الاستعمارية، فرنسية كانت أو إنكليزية أو أميركية، شتى أنواع السيطرة والقمع والتخريب في مجتمعاتنا العربية، وكانت آخر “إبداعاتهم” صناعة قوى التكفير التي تدّعي الإسلام، لكنها تمارس مهمة تدمير وتفتيت الدول والمجتمعات العربية والإسلامية نيابة عن الجيوش الأميركية والغربية، وبما يتكفّل بضرب كل القوى التي لم تخضع للأوامر الأميركية؛ بالتخلي عن القضية الفلسطينية، والاعتراف بالكيان الصهيوني الذي يحتل ويستوطن فلسطين، وهذا ما اعترف به وزير خارجية فرنسا السابق؛ من أن التخطيط للعدوان على سورية قائم لأنها تعادي “إسرائيل”.
وتلفت أوساط مراقبة إلى حقيقة سهى عنها كثيرون بفعل ضغط الأحداث، وهي أن هجمة القوى التكفيرية المصنَّعة أميركياً تقتصر على الدول ذات الأنظمة الجمهورية التي لديها تجارب انتخابية وديمقراطية، وإن كانت قاصرة، وتهدف إلى تفتيت تلك الدول ودفعها قروناً إلى الخلف، في سياق لا يمكن له إلا أن يكون من تخطيط وتوجيه صهيونيَّين، دمّر وخرّب حتى الآن ليبيا واليمن والعراق وسورية، ويهدد مصر ولبنان وتونس والجزائر، ودولاً أخرى، بعد أن قسّم السودان.
ولأن الدول تحكمها المصالح، وجد الروس؛ ورثة الاتحاد السوفياتي، في صمود سورية تحديداً، وفي تصدي معظم العرب المستهدَفين بالمشروع التكفيري واشتباكهم مع أدواته، فرصة للعودة إلى المنطقة، والإعلان منها، بالنار، عن هدفين: الأول، أفول الأحادية الدولية، التي احتكرت فيها الولايات المتحدة قيادة العالم في العقود الأربعة الماضية، والثاني، شنّ حرب على القوى التكفيرية، التي صنعها الأميركيون لقتال السوفيات في أفغانستان، ويحضّرونها لتكون “حصان طروادة” في خدمة مشروعهم لتفكيكك “الاتحاد الروسي”، بعد أن نجحوا سابقاً في تفكيك الاتحاد السوفياتي، وهناك كلام روسي واضح بأن هذا النهوض الروسي لن يتوقف، وسيستمر ليعيد التوازن إلى القرار العالمي، ومن يقرأ برنامج التسليح الروسي لإيران بأنظمة الدفاع الجوي المتطور (اس – 300) هذا العام، وللصين بنظام (اس – 400) الأكثر تطوراً عام 2017، يدرك أن النهوض الروسي هو قرار جدي لا رجعة عنه، حتى أن السفير الروسي في بيروت؛ الكسندر زاسبيكين، مرر في أحد اللقاءات السياسية قولاً غاب عن ألسنة الروس لعقود، عندما قال: “نحن في طليعة العالم في القوة العسكرية”.
وحسب المعلومات، فإن الروس الذين يعتبرون أن أميركا والغرب “كسروا كل الخطوط الحمر معهم”، يحضّرون للإعلان خلال أشهر قليلة عن إنشاء اسطولهم الخامس المخصّص للبحر المتوسط، وسيضم أربع عشرة سفينة وغواصة، وهم يؤكدون في كل مناسبة أن القرار الروسي هو حماية سورية ودول المشرق من الحروب الطائفية والإثنية الهادفة إلى تفكيك مجتمعاتها، كما دعوا ويدعون إلى عودة مصر إلى ممارسة دورها العربي وفي المنطقة، وإلى إعادة التعاون السوري – المصري على أوسع مداه، وهو ما بتنا نتلمس الكثير من معالمه، خصوصاً أن البلدين يحاربان عدواً واحداً. ومن يتابع المواقف الروسية في لقاءات فيينا، يدرك صلابة هذه المواقف التي فرضت على الأميركي أن يقر بأن التغيير في سورية هو من صلاحيات الشعب السوري وليس بفعل القرارات الخارجية.
يحلو للسفير زاسبيكين القول إن قوة روسيا الحالية التي تتفوق فيها على الغرب هي “الأخلاق”، فهي تسعى لإقامة “نظام عالمي أكثر عدالة”، وبين التصدي لمشاريع التقسيم والتفتيت التي يتعرض لها العرب، والسعي لإقامة نظام عالمي عادل، تكمن المصالح الحقيقية للعرب، ويكون النهوض الروسي فرصة عربية حقيقية علينا ألا نفوّتها.
الكاتب عدنان الساحلي