إكس خبر – معنيٌ أنا – طوال الأربعين عاماً الماضية – بالشأن المسيحي من خلال دراستي عن «الأقباط في السياسة المصرية» في جامعة لندن والتي كشفت لي دائماً عن أهمية التنوع الديني والتعدد الطائفي في إثراء الأمم ونهضة الشعوب، بينما نرى الآن صورة مختلفة تماماً تتجسد مظاهرها في ما يأتي:
أولاً: إن ما جرى تجاه المسيحيين العرب في الفترة الأخيرة يعتبر انتهاكاً صريحاً لتعاليم الإسلام وعدواناً على «أهل الذمة» الذين أوصى بهم خيراً النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لما فيها من خروج صريح على روح العصر ومبادئ حقوق الإنسان، فعملية التهجير القسري للمسيحيين العراقيين في الموصل تاركين ممتلكاتهم للنهب والسلب بعد تخييرهم بدخول الإسلام أو دفع الجزية أو يرحلون من دون ما يملكون، فليضع كل مسلم أسرته في مكان تلك الأسر المسيحية البائسة التي تعرضت للهوان الإنساني والقهر بالقوة في إساءة بالغة للإسلام إذا كان يمكن حساب من يفعلون ذلك في عداد المسلمين. إن نبينا أوصى بـ «أهل الذمة» خيراً. لقد قال: «من آذى ذمياً فقد آذاني» و «من آذى ذمياً فأنا خصيمه يوم القيامة»، فالإسلام براء من هذه التصرفات الهمجية التي تعيدنا إلى عصور انتهت وقرون مضت. ألم يأتِ الذكر الحكيم بقوله تعالى: «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنَّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون». إن ما تقوم به مجموعة «داعش» هو إساءة بالغة الى المسلمين في كل مكان وتحريض مباشر على الفتنة واستعداء لغير المسلمين على المسلمين في البلاد التي يكونون فيها أقلية أسوة بما جرى لأشقائهم وأشقائنا في العراق، وواقع الأمر أنه قد حان الوقت لكي نفتح ملف «المسيحيين في العالم العربي» وأن نتذكر أن الإسلام برحابته وسماحته يعتبرهم شركاء أصليين في بناء الحضارة العربية الإسلامية، وواهم ذلك الذي يتصور أن التطرف الديني الذي يبلغ حد الشطط ويصل بأصحابه إلى العدوان على «أهل الذمة» هو أمر معقول أو مقبول، ولنتذكر جميعاً مرة أخرى أن الشراكة الإسلامية- المسيحية بل واليهودية أيضاً في بعض مراحل تاريخ الدولة الإسلامية كانت أساساً للنهضة وركائز للتقدم في إيثار من المودة والمحبة والتعايش المشترك.
ثانياً: لست أحسب أن المصريين عبر تاريخهم الطويل كانوا أحوج الى الوحدة الوطنية والتماسك القومي منهم الآن، لذلك فإنني أظن أن السنوات الأربع الأخيرة قد أثبتت – على رغم كل الأزمات والصعاب – أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر علاقة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ وأن الدم المصري الواحد هو الذي نسج خيوط التلاحم وصنع أسباب التجانس بين المصريين جميعاً، ولقد تحمَّل أقباط مصر ما يعتبر أكبر اختبار لهم في العصر الحديث، وتمكنوا من تأكيد مصريتهم وتعميق وطنيتهم وولائهم للأرض الطيبة التي عاشوا عليها عبر آلاف السنين، ولقد استقبلت الغالبية المسلمة ذلك الموقف المشرِّف لمسيحيي مصر بالتقدير الصادق والمحبة المخلصة. لقد جرى حرق وتدمير أكثر من سبعين كنيسة في أعقاب سقوط «دولة المرشد» في مصر ومع ذلك لم يجأر المسيحيون بالشكوى في الخارج ولم يستقوِ بعضهم بالعواصم الغربية كما كان يحدث أحياناً من قبل بل انصهروا مع أشقائهم من المصريين المسلمين من دون تفرقةٍ أو تمييز، حتى لقد صرح بابا الأقباط تاوضروس الثاني بأن استعادة بناء الكنائس وتعميرها أمر سهل ولكن استعادة الوطن هي الهدف الأكبر، كما شاركت جموع الأقباط بإيجابية غير مسبوقة في الاستفتاء على الدستور وانتخاب رئيس الجمهورية الجديد في ظل تلاحم شعبي فريد من نوعه، وشعر المصريون بحق أن «مصر للمصريين» وأن العمقين العربي والإفريقي هما الحضن الأثير للشعب المصري، خصوصاً أن أقباط مصر – شأنهم شأن باقي المسيحيين العرب – يتمتعون بترحيب معروف للعمل في دول الخليج العربي من دون تفرقة أو تمييز وتلك حقيقة يعتز بها الجميع.
ثالثاً: لقد عرفت المنطقة العربية أنواعاً من الحكم وتوافدت على السلطة فيها عناصر مختلفة تتأرجح بين الفهم الصحيح للإسلام الحنيف وروحه السمحاء وبين بروز مظاهر التشدد والتعصب والانغلاق والخروج عن التعاليم الدينية الصحيحة للسقوط في براثن العنف والتصرفات الهمجية والإرهاب الأحمق! والمشهد في العالمين العربي والإسلامي حالياً يوحي بأننا أمام هجمة شرسة لقوى معادية لشعوب المنطقة تحاول أن تحقق في هذه الظروف الاستثنائية ما لم تتمكن من تحقيقه في الظروف الطبيعية، لذلك تزايدت الضغوط على المسيحيين العرب بشكل ملحوظ فارتفع معدل الهجرة والنزوح من التجمعات المسيحية بدءاً من موارنة لبنان مروراً بأقباط مصر وصولاً إلى مسيحيي العراق في محاولة للطرد بالإرهاب والقيام بعملية إبعاد قسري على حساب استقرار وحقوق وممتلكات العرب غير المسلمين، بل إنني أظن أن العرب المسلمين قد نالهم هم أيضاً من الترويع بالقوة والإرهاب بالعنف ما يؤكد أن تلك الهجمة الجديدة تستهدف الجميع بغير استثناء، لذلك فإننا ندق ناقوس الخطر مؤكدين أن ما يجري من تطرف وتعصبٍ ومحاولة لقهر تجمعات بشرية بذاتها للخلاص من وجودها إنما هو ضربة حقيقية موجهة بالدرجة الأولى لصورة الإسلام التي يرفع لها تنظيم «داعش» الراية السوداء شعار تنظيم «القاعدة» باعتبار «داعش» الجيل الأحدث والأكثر شراسة. إن متابعة الأرقام السنوية والإحصائيات الدورية في المنطقة العربية تؤكد بوضوح تزايد معدلات النزوح أو الهجرة من لبنان والعراق ومصر حيث تحمل الأرقام الصادرة مؤشراتٍ صادمة توحي بأن الاستهداف موجه ضد شركاء الحضارة العربية الإسلامية من غير المسلمين، ونحن نطالب صراحة بوقفة موضوعية وشجاعة حتى لا تطل علينا مظاهر التخلف السياسي والتعصب الديني.
رابعاً: تتعرض منطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا وفي قلبهما الشرق الأوسط – بمعناه الجغرافي والتاريخي – لهجمة شرسة تبدو كالزلزال المدمر أو كالإعصار الذي يكتسح أمامه كل شيء، إذ إننا في صدد تحولات خطيرة وأحداث جسام تتجه بنا نحو المجهول، فبعد أن جرى تقسيم العالم الإسلامي بين شيعة وسنّة، يجرى تقسيم العالم العربي بين مسلمين ومسيحيين، والمشهد العام يؤكد ذلك، فكل يوم يحمل خبراً جديداً وأليماً، فمن استهداف الأقباط المصريين بعمليات إعدام جماعي على الهويّة في ليبيا أخيراً إلى مطاردة المسيحيين في شمال العراق مروراً بالاعتداء على الكنائس في مصر وغيرها من أقطار المنطقة فضلاً عن البرميل القابل للانفجار دائماً في لبنان المفترى عليه، ونحن نرقب عن كثب التداعيات التي تجري وتشير إلى أن الأخطار المقبلة أكبر بكثير مما تصورنا، فمن كان منَّا يسمع عن «داعش» منذ عامين؟! فكل يوم نكتشف أن المؤامرة أكبر مما تصورنا وأخطر مما توهمنا ويجب ألا يدفع مسيحيو الشرق فاتورة قد تجرنا إلى مواجهة معقدة لا نستطيع الخروج منها. إننا أمام لحظاتٍ فارقة في تاريخ المنطقة، فالذين استبشروا خيراً بالربيع العربي يراجعون أنفسهم الآن، فليست المسألة هي معاناة الشباب وشيوع الفساد وعنف قبضة الاستبداد، وهي الظواهر التي تجذرت في المنطقة وخرجت جماهير الشعوب ضدها، فإذا هي أيضاً مقدمة لأحداث أكثر عنفاً وأشد وطأة على المنطقة برمتها وعلى الأقليات قبل غيرها. إننا ندق ناقوس الخطر قائلين إن ما يحدث في المنطقة لا يجب النظر إليه بالرؤية التي تعودنا أن نرى بها الأحداث في العقود الماضية… إننا أمام زلزال آتٍ.
خامساً: لست أشك في أن المستقبل يحمل في طياته أخطاراً مفتوحة أمام المنطقة التي ننتمي اليها لأن الاستهداف يطوِّق دول الشرق الأوسط على نحوٍ غير مسبوق ويجري تصدير المشكلات إلى شعوبه في محاولةٍ لتحقيق مزيدٍ من التراجع لأقطار المنطقة، وتبقى إسرائيل هي الرابح الأكبر في النهاية حيث تبدو دولة حديثة ومتفوقة وواحة للتقدم والديموقراطية وسط دولٍ يجري تمزيقها وتفتيت وحدتها وقهر إرادتها. لقد جرت صناعة المشكلات الطائفية والصراعات المذهبية والصدامات الدينية في منطقة كان يجب أن تكون الأكثر استقراراً ورخاء وأمناً بمنطق الثروة الطبيعية والبشرية في آنٍ واحد، ولكن الذي حدث قد عصف بذلك كله ووضعنا أمام تحدياتٍ جديدة حيث يدور الحديث حول مخططاتٍ خفيّة وأجندات مستترة للنيل من دول المنطقة وتفتيت شعوبها وإهدار ثرواتها، وتستخدم القوى المناوئة المسيحيين العرب باعتبارهم ورقة رابحة للتأثير في مجريات الأمور، فالاستفزاز غير المبرر والهجمة الشرسة على المسيحيين في العراق سيؤديان بالضرورة إلى تدخلٍ أجنبي ولو بعد حين إذ إن هناك من يرصد الموقف ليعود إلى المنطقة من جديد. إننا أمام وضعٍ يستلزم تدخلاً دولياً وإقليمياً يعيد الأمور إلى نصابها ويحقق التوازن بين الأطراف، لأننا معرضون لمحاولة اجتياح تعصف بالتراث والواقع والغد المنتظر. إننا ندعو إلى توظيف الدم العربي المشترك للدفاع عن مستقبل أجيالنا المقبلة، وأدعو الغالبية المسلمة إلى الخروج صراحة وبزخمٍ واضح لرفض ما يجري وتحقيق درجة من التماسك القومي التي ترتبط بصحوةٍ شعبية لأمةٍ يُفترض أنها «خير أمة أخرجت للناس» ويجب ألا يغيب عن وعينا أن حملة لواء القومية التي انطلقت من الشام والمهجر في القرنين الأخيرين هم من المسيحيين العرب!
تلك قراءةٌ لمشهد تدعو كل أبعاده إلى القلق الزائد والتوتر المستمر لأن كل يوم يحمل أنباء غير سارة، ونحن لا نستغرق في التشاؤم ولكننا نفكِّر دائماً بمنطق «السيناريو الأسوأ»، فإذا جاء غير ما توقعنا فنحن في رضا لأن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.