إكس خبر- خلال الأسابيع الماضية، استدانت المصارف من مصرف لبنان أكثر من 5 مليارات دولار بفائدة 20% من دون أن تستعملها لتيسير أمور المودعين. بل استخدمت جزءاً غير قليل منها في عمليات مضاربة على الليرة مع الصرافين الذين باتوا يقدّمون حسماً على الشيكات المصرفية بالدولار تفوق 30% مقابل دولارات نقدية، ما أدّى إلى تراجع قيمة الليرة مقابل الدولار بنسبة 65%.
ويصنّف ذلك في إطار سياسة مصرف لبنان الرامية إلى إجراء عملية اقتطاع مقنّعة للودائع من خلال الإبقاء على سعر صرف الليرة في السوق الموازية، مقابل تمويل الصرافين – عير المصارف – بالدولارات من احتياطاته بالعملات الأجنبية التي يفترض أن تكون مخصصة لتمويل عمليات استيراد السلع.
السؤال الأساسي المثار اليوم يتعلق بانخفاض قيمة الليرة في السوق الموازية. حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اجتمع مع وفد من نقابة الصرافين أمس، وتمنّى عليهم العمل على توحيد سعر صرف الليرة وتحديده بقيمة 2000 ليرة مقابل الدولار الواحد بدلاً من 2500 ليرة. كلام سلامة يثير القلق لأنه يوحي بأنه ينوي فعلاً إجراء خفض على قيمة الليرة، ولأنه أصلاً ترك سوق الصرافين للمضاربات من دون أي تدخّل حاسم، لا بل كان يعلم أن الصرافين لا يمكنهم الحصول على الدولارات النقدية من دون الحصول على تمويل من المصارف.
هذه هي السياسة النقدية التي انتهجها سلامة في الاسابيع الماضية. سياسة السعرين. أما الهدف فيكمن في خفض اصطناعي لقيمة الودائع بالدولار («هيركات» مقنّع على الودائع) والتخفيف من الدولرة، وإمداد المصارف بالسيولة. يحصل هذا الأمر بطرق مختلفة يمكن إيجازها على النحو الآتي:
– المصارف تتذرّع بالأزمة لرفض دفع الودائع بالدولار نقداً، وفي المقابل تعرض على المودعين سحب أموالهم بشيكات نقدية أو نقداً بالليرة اللبنانية على سعر 1515 ليرة مقابل الدولار. من يقبل من المودعين الحصول على الشيكات، عمد إلى بيعها لدى الصرافين أو لدى جهات أخرى مقابل دولارات نقدية بأقل من قيمتها الورقية بنحو 30% و40%. أما من يرفض الحصول على الشيكات، فلم يكن يجد حلاً سوى إبقاء وديعته في المصرف الذي لم يعد محل ثقة نهائياً، أو سحبها بالليرة اللبنانية وشراء الدولارات من الصرافين بالسعر الرائج الذي بلغ حدّاً أقصى 2550 ليرة، أو شراء الشيكات التي كان يحصل عليها الصراف من مودعين حسموها مقابل الدولارات النقدية.
– عندما يحصل المودع على الدولارات النقدية، يعمد إلى شراء العقارات أو إلى خزنها في المنزل. وبما أن قلق هؤلاء من حصول حوادث سرقة، كان الخيار الأكثر عقلانية، ولا سيما بالنسبة أصحاب الودائع الكبيرة نسبياً، شراء العقارات. في كلي الحالتين، كان المودع يخسر من قيمة وديعته ما يتراوح بين 30% و65%. وبما أن شراء العقارات، سواء بالشيكات أو الدولارات النقدية، يحفّز عمليات البيع لدى تجّار العقارات المتعثّرين والذين تزيد ديونهم في المصارف على 17 مليار دولار. بعض المصادر تشير إلى أن هذه العمليات غطّت أكثر من 4 مليارات دولار من الديون العقارية التي تشكّل جزءاً كبيراً من محفظة التعثّر.
ــ إلى جانب هذه العمليات كانت العمليات التجارية تسير بشكل طبيعي. أي أن التجار المستوردين الذين لم يحصلوا على تمويل من مصرف لبنان بالدولارات بسعر 1515 ليرة، عمدوا إلى شراء الدولارات من الصرافين بالأسعار الرائجة بهدف إيداعها في المصارف على أنها دولارات طازجة وتحويلها إلى الخارج لتمويل استيراد السلع. يتم تحميل الفرق في كلفة شراء السلع الناتجة عن فرق أسعار الليرة، للسلع المبيعة في السوق المحلية، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. ويزداد ارتفاع الأسعار بسبب الاحتكارات التجارية المستشرية في لبنان.
ــ أما بالنسبة لتجار النفط والأدوية والمستلزمات الطبية والقمح الذين حصلوا على تعميم من مصرف لبنان يموّل ما بين 50% و85% من قيمة وارداتهم، فقد عمدوا إلى شراء حاجاتهم للدولارات اللازمة لتمويل استيراد هذه السلع من الصرافين وبالأسعار المتداولة ما خلق ضغطاً إضافياً على سعر الليرة.
الناتج من هذه العمليات: المصارف حصلت على سيولة بالدولار بسبب تسديد ديون التجّار، ونفّذت بالتواطؤ مع الصرافين، وبتغطية من مصرف لبنان، عمليات مضاربة على الليرة خفضت قيمتها واقتطعت جزءاً من قيم الودائع، وأغلق مصرف لبنان الباب أمام انفجار الفقاعة العقارية التي كانت تعدّ أهم انكشاف للمصارف على الديون السوقية. إذ قدّر صندوق النقد الدولي أن الديون العقارية تتركّز في محفظة تسليفات المصارف بنسبة 90%. أما بالنسبة لمصرف لبنان، فهو خلق كميات إضافية من الليرة، وضخّها في الأسواق، ودفع السوق نحو عملية تصحيح عشوائية تدفع ثمنها الفئات الأكثر هشاشة من الطبقة الوسطى والفقراء. هؤلاء دفعوا الثمن مرتين: مرّة عندما كانوا مودعين في المصارف يملكون بعض المدخرات التي تآكلت بفعل سحبها وحسمها بقيمة أقل مقابل الدولارات النقدية، ومرّة ثانية بفعل تضخّم الأسعار الناتج من توسّع مصرف لبنان في خلق الكتلة النقدية بالليرة.
بعد 17 تشرين الثاني، عرض حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على المصارف إقراضها سيولة بالدولار بفائدة 20% لتغطية طلبات الزبائن المقدرة بنحو 225 مليون دولار أسبوعياً. لكن مع مرور الوقت، وفرض المصارف سقوفاً قاسية وأكثر تشدداً على عمليات السحب والتحويل والقطع، تراجعت حاجات السيولة لتغطية الزبائن إلى 100 مليون دولار أسبوعياً. بهذه الحجّة، استدانت المصارف من مصرف لبنان أكثر من 5 مليارات دولارات، إلا أنها استخدمت جزءاً وازناً من هذه الأموال للحصول على أوراق نقدية بالدولار من أربعة صرافين يملكون رخصة شحن أموال ورقية، وهي بدلاً من أن تحرّر جزءاً من الودائع، خصوصاً الودائع الصغيرة التي تشكّل 85% من مجمل الودائع وليس فيها أكثر من 100 ألف دولار، قامت بالتشدّد في منح الدولارات للمودعين وبدأت تخزّن القسم الباقي وتبيع قسماً آخر للصرافين من أجل «تفليت» سعر الليرة. هذه هي سياسة رياض سلامة التي نفذها بالتواطؤ مع عدد من المصارف، رافضاً التدخّل في ما يراى أنه سوق حرّ، رغم أنه أصدر تعميماً يحدّد اسعار الفوائد التي كان يزعم أنها «حرّة» أيضاً.