إن من يحاول نقض “طلبنة” حماس لقطاع غزة على أساس ان الحركة تنتمي إلى فكر الإخوان المسلمين الاجتماعي لا يعرف ماذا يحدث على الارض فعلا.
في قطاع غزة لا يحتاج الزائر إلى دقة ملاحظة كي يلاحظ تكرار حماس ببلاهة ما قام به إسلامويون عديدون في أكثر من مكان -الانهماك في أمور ثانوية وهامشية محطها مطاردة المرأة، على حساب أولويات كبرى وضاغطة. لا يعني هذا أن تحقيق تلك الأولويات يشرعن فتح المجال للقبول بما يتم فرضه على النساء هناك، فهي سياسات مرفوضة أيا كان زمنها ومكانها وظرفها.
لم يعد للتساؤل الذي رافق سيطرة حماس على الحكم في قطاع غزة وفيما إن كانت ستنهج نهجاً أردوغانيا أم طالبانيا أي معنى عملي، إذ حُسمت الإجابة عنه بالخيار الثاني. ما يحدث في قطاع غزة من ناحية الأسلمة المفروضة وقمع الحريات الاجتماعية والثقافية والإعلامية التي لا تنسجم مع رؤية حماس هو أمر خطير ومرفوض ويكرر تجربة الأنظمة الشمولية والاستبدادية ولكن برداء ديني.
في ظل حصار همجي وغير إنساني يمثل جريمة ضد الإنسانية تشارك فيها دول العالم الكبرى، تزيد حماس من معاناة الناس في مطاردة مظاهر اجتماعهم العفوي، وتغيير ما تعودوا عليه لقرون طويلة. أعراسهم ولقاءاتهم واختلاطهم ووضع المرأة بينهم هي توافقات اجتماعية وطبقية وظرفية لا دخل للقانون في تحديد شكلها. عندما يضطر الأزواج والخاطبون إلى الاحتفاظ بعقود الزواج في جيوبهم أثناء تنقلاتهم خشية اقتحام مسلح ما جلستهم والسؤال عن علاقتهم ببعضهم البعض، فإن ذلك معناه انحدار مخيف في قيم ونمط الحياة الفلسطينية لم يكن موجودا على الإطلاق.
عندما تُطاردُ دراجات هوائية سيارة عائلية تجلس فيها امرأة بجانب رجل يمد ذراعه على متكىء الكرسي خلف رأسها وتوقفها وتقودها إلى مركز الشرطة فإن ذلك “عسس” سخيف على حياة الناس. وعندما يتم إيقاف شقيق وشقيقته في طريقهما للبيت ليلا لأنهما لا يحملان هوية بما يثبت “العلاقة الشرعية” بينهما فإن ذلك ممارسة طالبانية لا مماراة فيها.
سلسلة طويلة من الممارسات تبدأ بفرض غير مباشر للحجاب على طالبات المدارس (من دون مستمسكات إدارية وتعليمات مكتوبة)، إلى مطاردتهن في المطاعم والمقاهي، إلى حظر تدخين النرجيلة، وصولا إلى “تفتيش” الحواسيب الخاصة بحثا عن صور وأفلام مخلة بالأخلاق.
قدرات طالبان التقنية لم تتح لهم ما تتيحه قدرات حماس التقنية الآن. فحماس التي طورت الكثير من تلك القدرات بإبداع ينتزع الإعجاب في مجال تصنيع الصورايخ وصد الاختراقات الأمنية الإسرائيلية واستخدام التكنولوجيا الحديثة، تستخدم الآن الكثير من تلك القدرات لضبط ومراقبة المجتمع الغزي بأبوية تثير الاشمئزاز.
لماذا تقوم حماس بذلك وهي تدرك ما يجره عليها من نقد وخسارات؟ كيف يمكن أن نفهم أولوية فرض الأسلمة في حين يتم تأخير أن اولوية إعمار قطاع غزة بعد الحرب، مثلا، وإنفاق مئات الملايين وبناء مئات البيوت المدمرة لا تلح على حكومة حماس بسبب المناكفة مع حكومة رام الله حول من يسيطر على المال وآليات الإنفاق؟ هل يُختزل “المشروع الحضاري الإسلامي” في فهم حماس إلى مطاردة المرأة والأسلمة المفروضة، في جزء مقسوم من الوطن الكل؟ هل السيطرة والأسلمة تُقدم على الوحدة الوطنية جريا وتساوقا مع المثال السوداني المدمر؟
هناك تفسيران قد يُساعدان في فهم مآلات حماس الطالبانية على المستوى الاجتماعي. الأول هو تآكل الفكر الإخواني المعتدل في داخل حماس لصالح الفكر السلفي المتشدد. خلال ثلاثة عقود أو أزيد تصاعد تأثير السلفية الوهابية داخل حماس نتيجة ذلك أن عددا متزايدا من المتنفذين فيها الآن هم من خريجي الجامعات السعودية الذين التحقوا بها في منح دراسية وتسهيلات مالية، وعادوا إلى القطاع بعد سنوات عدة متشربين الفكر السلفي. لذلك فإن من يحاول نقض “طلبنة” حماس لقطاع غزة على أساس ان الحركة تنتمي إلى فكر الإخوان المسلمين الاجتماعي لا يعرف ماذا يحدث على الارض. الأمر الثاني هو أن ظروف الحصار والمواجهة التي فُرضت على الحركة بعد فوزها في الانتخابات، ثم توقف “المقاومة” بعد الحرب الإسرائيلية الوحشية، وبروز مظاهر فساد عند بعض مسؤوليها، ثم ما يرافق تجربة أي حكم من محسوبيات وسواها، قاد بمجمله إلى زيادة وتائر نقد الجماعات الصغيرة الأكثر تشددا لحماس، ونقد كثير من أفراد حماس لها أيضا، واتهامها بالابتعاد عن “النهج الإسلامي وعدم إقامة حكم الله في الأرض”.
للرد على ذلك تتشدد حماس في الأسلمة الاجتماعية لتثبت أنها الأكثر أسلمة وتمسكاً بالشعارات التي كانت ترددها. لكن خلاصة ذلك كله مريرة وهي أن “المشروع الحضاري الإسلامي” والمقولات الكبيرة التي يرددها الإسلامويون هنا وهناك ليقولوا بأنهم البديل لما هو قائم، يتأكد يوما إثر يوم أن جوهرها لا يتخطى الغرق في الهامشيات، وهذه الهامشيات يحتل لباس المرأة وسلوكها يحتل رأس الأولويات فيها. [email protected]