إكس خبر- ليس صحيحاً أن الرأي العام في مصر يؤيد أو يتعاطف مع العدوان الإسرائيلي على غزة، ولم أتخيل أن يأتي اليوم الذي أكتب فيه مدافعاً وموضحاً أصالة وثبات واستمرار الدعم المصري الشعبي الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني. اتجاهات المصريين ضد إسرائيل، الاستمرارية هنا تعني أننا إزاء اتجاهات ومواقف تتسم بقدر كبير من الثبات والرسوخ وإن اختلفت المواقف السياسية لدولة عبد الناصر أو السادات أو مبارك أو مرسي أو السيسي من إسرائيل.
اتجاهات المصريين من القضية الفلسطينية تشكلت تاريخياً وثقافياً وسياسياً وباتت جزءاً من ثقافة المصريين وتعاطفهم مع الضعيف ورفضهم لسطوة المعتدي الظالم وهي قيم متوارثة من الحضارات الفرعونية والقبطية والإسلامية، ولا شك أن اتجاهات المصريين الداعمة لحقوق الفلسطينيين ترسخت في ظل اعتبارات الأمن القومي المصري والحروب المصرية الإسرائيلية والعلاقات المتداخلة بين الشعبيين. في هذا السياق تؤكد أدبيات الرأي العام أن الاتجاهات أكثر ثباتاً وهي – إضافة إلى عوامل أخرى – تتحكم في عملية تشكيل الرأي العام وأساليب التعبير عنه ومواقفه المعلنة أو غير المعلنة.
وعلى رغم عدم إجراء أي استطلاعات للرأي العام المصري تجاه العدوان على غزة، إلا أن هناك استسهالاً في بعض وسائل الإعلام العربية والغربية للحديث عن غياب التعاطف الشعبي المصري مع غزة، وعن تعاطف الرأي العام المصري مع ضرب غزة باعتباره سيؤدي إلى التخلص من «حماس» الإخوانية، التي تتآمر على الشعب المصري وتدعم العمليات الإرهاب في سيناء وداخل مصر، والحقيقية أن شيطنة «حماس» في الإعلام المصري خلال العام الماضي سمحت لعدد محدود من الإعلاميين للشماتة في «حماس» وتحميلها المسؤولية عن ارتفاع أعداد القتلى والجرحى من الفلسطينيين، لكن الغريب أن الأصوات الشاذة والنادرة في الإعلام المصري والتي أبدت تعاطفاً مع إسرائيل وادعت أن «حماس» عدو مشترك لمصر وإسرائيل فتحت المجال للترويج لمقولة غير صحيحة عن انحياز الإعلام المصري إلى العدوان الإسرائيلي وقيامه باستعداء المصريين ضد الفلسطينيين، وهو تعميم مبالغ فيه، لأن هناك فارق كبير بين قيام بعض الأصوات في الإعلام المصري بشن حملة ممنهجة ضد قيادات «حماس» التي تورطت في تصريحات ومواقف متعاطفة مع «الإخوان» أثناء مناقشة المبادرة المصرية لوقف العدوان، وبين مواقف الإعلام المصري في مجمله، والتي حافظت على دعمها للشعب الفلسطيني. من جانب آخر لا يمكن الادعاء بأن مواقف الإعلام المصري أدت إلى تغيير مواقف وقناعات المصريين الداعمة تاريخياً للفلسطينيين، بدليل عدم تنظيم تظاهرات شعبية – كما جرت العادة – للتنديد بالعدوان الإسرائيلي. لأن هناك أسباباً أخرى تفسر غياب تلك التظاهرات، كما أن الهجوم في الإعلام على «حماس» لا يعني عدم التعاطف مع الشعب الفلسطيني. القصد أن هناك خلطاً في الأوراق والمواقف يستهدف تشويه الرأي العام المصري وتصويره على غير الحقيقة، وتحميل الإعلام المصري المسؤولية عن ذلك، وهو أمر غير صحيح ويتعارض مع تراجع دور الإعلام التقليدي ومهنيته وتآكل صدقيته. لذلك من المهم توضيح عدد من الحقائق أهمها:
1- لا يمكن التسليم بأن الإعلام المصري ينفرد بتشكيل مواقف الرأي العام تجاه العدوان على غزة، فثمة عوامل ومتغيرات أخرى أهمها الاستقطاب والصراع الثقافي والسياسي في المجتمع حول خريطة الطريق ومشروعية النظام السياسي من جهة، والموقف من إسرائيل من جهة ثانية، فجماعات الإسلام السياسي المعارضة للحكم الجديد أو المؤيدة، علاوة على الناصريين واليساريين لهم مواقف أيديولوجية واتجاهات ثابتة، يصعب على الإعلام تغييرها. أضف إلى ذلك أن انقسام المجتمع يدفع بقطاعات من المصريين إلى مقاطعة الإعلام المصري الخاص والعام، ومتابعة الأحداث من خلال قناة «الجزيرة» وأخواتها وبعض القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد والتي تعاظم دورها وأثبتت فاعليتها في تغطية تفاصيل العدوان الإسرائيلي.
2- دان الإعلام المصري في أغلبه العدوان الإسرائيلي وأبدى تعاطفه ودعمه للشعب الفلسطيني، وذلك على رغم الربط بين «حماس» و»الإخوان»، وانتقاد مواقف «حماس» تجاه مصر واتهامها أحياناً بالمسؤولية عن التصعيد مع إسرائيل من دون استعداد أو قدرة حقيقية على ضرب العمق الإسرائيلي، علاوة على استخدام مفردات الحرب في غزة، وتصوير المواجهة وكأنها بين خصمين متساويين في القوة. المعنى أن الإعلام المصري ميز بين «حماس» والشعب الفلسطيني، واستخدم فيضاً من الصور والأخبار التي تفضح همجية العدوان الإسرائيلي على المدنيين والأطفال، وأدى استمرار العدوان لثلاثة أسابيع إلى تعاطف قطاعات واسعة من المصريين الذين صدموا من استهداف المدنيين والأطفال في غزة.
3- يمر المصريون بمرحلة من القلق والخوف من مخاطر المؤامرات الداخلية والخارجية والمخاوف الأمنية، علاوة على الضغوط الاقتصادية، ما يؤثر بقوة على ارتباك وغموض عمليات تشكيل الرأي العام وتقلباته، حيث خسر المجال العام حرية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي، وعانى من نقص المعلومات وهيمنة الصوت الواحد في الإعلام التقليدي. من هنا تراجع الاهتمام العام بالقضايا العربية والدولية لصالح الشأن الداخلي المصري، وصارت الحرب على «الإخوان» والإرهاب هي التناقض الرئيسي الأول الذي يهتم به أغلب المصريين وبالتالي صار من غير المقبول التظاهر دعما للفلسطينيين خوفاً من استغلال جماعة «الإخوان» وأنصارها لمثل هذه التظاهرات. هكذا اختفت التظاهرات الاحتجاجية على العدوان الإسرائيلي، باستثناء ترديد بعض الشعارات المؤيدة للفلسطينيين في التظاهرات الدورية الضعيفة التي ينظمها «الإخوان» في بعض القرى والمدن إضافة إلى بعض الأحياء على أطراف مدينتي القاهرة والإسكندرية.
4- إن ارتباك عمليات تشكيل الرأي العام بسبب الخوف من عودة «الإخوان»، والمؤامرات المجهولة، أدى إلى خلط قطاعات واسعة من المصريين بين دعم الفلسطينيين ودعم «حماس»، باعتبار أن «حماس» امتداد لـ «الإخوان»، وأن على الفلسطينيين التخلص من «حماس» أولاً! وهي مهمة صعبة ومعقدة لكن الحديث عنها يعكس جهلاً بأوضاع القطاع وبأسباب العدوان الإسرائيلي وسياقه ونتائجه، وبضرورة التمييز بين الموقف الوطني والأخلاقي الذي يجب أن تعلنه مصر حكومة وشعباً، وبين الاختلاف السياسي مع «حماس»، التي لا تمثل غالبية الشعب الفلسطيني. وأتصور أن تحيز التغطيات الإعلامية وغياب دور شباب الثورة والنشطاء والأحزاب السياسية أفضى إلى الخلط في إدراك المصريين لسياق وتداعيات العدوان على غزة، ومن ثم تأزيم عملية تشكيل الرأي العام.
أعتقد أن الحقائق السابقة، وبغض النظر عن الموقف الرسمي المصري، تكشف المبالغات والتعميم المتسرع في شأن موقف الإعلام المصري من العدوان على غزة، وموقف الرأي العام المصري المأزوم والمنقسم على نفسه، فهو متعاطف مع الشعب الفلسطيني، ومعاد لـ «الإخوان» و»حماس»، ويخشى من إعلان تعاطفه ودعمه للفلسطينيين، فالأوضاع الاقتصادية والأمنية بحسب خطاب الجمهورية الخامسة لا تتحمل مزيداً من الأعباء أو المخاطر في ظل المؤامرات المبهمة على مصر والتي تهدد بكوارث على غرار ما يجري في العراق وسورية وليبيا. وعلى رغم كل هذا الارتباك في مكونات الرأي العام المصري، إلا أن القيم والاتجاهات الثابتة لدى المصريين تجاه الصراع العربي الإسرائيلي ترجح أن الرأي العام في أغلبه يرفض استمرار العدوان على غزة ويدعم فك الحصار عن القطاع وقيام الدولة الفلسطينية، لكن الرأي العام هنا – وبدعم من القوى السياسية المدنية – غير قادر وربما لا يرغب في التعبير الصريح عن نفسه، لأسباب كثيرة منها الخوف من «حماس» و»الإخوان»، والخوف من الصدام مع الحكومة والذي قد يربك أولويات تحقيق الأمن والاستقرار، وبالتالي فان الفرضية التي أطرحها هي أن القيم والاتجاهات التي تتحكم في تشكيل الرأي تجاه إسرائيل لم تتغير، وإنما تغيرت فرص وأشكال التعبير عن الرأي العام، وهي ظاهرة تاريخية مصرية ترتبط بالحريات العامة وحيوية المجال العام.
فمنذ زيارة السادات للقدس عام 1977 وحتى رحيل مبارك كان الرأي العام تجاه القضية الفلسطينية محاصراً أو مقموعاً ولم يعبر عن نفسه بحرية إلا في مناسبات نادرة، ومع أن أهداف 25 يناير خلت من المطالبة بالوحدة العربية أو إسقاط كمب ديفيد أو حتى تغيير معاهدة السلام، إلا أن الرأي العام عبر عن نفسه بحرية في مناسبات عدة منها اقتحام السفارة الإسرائيلية وإدانة الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين. وكان الرأي العام المصري تجاه فلسطين في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين قد عبر عن تعاطفه مع الفلسطينيين بحرية.
والمفارقة أن القضية الفلسطينية كانت بوابة مصر إلى العروبة، ولعبت جماعة «الإخوان» دوراً بارزاً في نشر الاهتمام بفلسطين من منظور ديني، لكن يبدو أن الجماعة بعد ثمانين عاماً كانت أحد أسباب ابتعاد بعض قطاعات الرأي العام عن القضية الفلسطينية وعودة خطاب عزلة مصر عن محيطها العربي «الفرعونية أو مصر أولاً»، وهو بالمناسبة خطاب لا يموت وإنما يتراجع ويقمع اجتماعياً وسياسياً بشكل طوعي وناعم وأحياناً بأدوات خشنة، واللافت أن عودة هذا الخطاب يتعارض وحديث السيسي عن عروبة مصر والارتباط لعضوي بين أمنها والأمن العربي، لكن يبدو أن حديث السيسي قد يوظف لتبرير شراكة مصرية خليجية باستثناء قطر طبعاً، وربما باستثناء فلسطين أيضاً، ما يعني استخدام معايير مزدوجة وبراغماتية لمعاني والتزامات عروبة مصر وأمنها القومي، أو كما قال لي أحد أنصار عزلة مصر «ليس شرطاً أن تكون فلسطين دائماً وأبداً هي بوابة مصر إلى العرب»!