عواقب عدم التصدي لعبء الديون المتزايد على البلاد ستكون وخيمة، وفق ما صرح به مؤخرا أمام جمهور من الخبراء البارزين في الميزانية والاقتصاديين في تجمع في واشنطن، مضيفا «سوف نشهد أعمال شغب في الشوارع وعجزا عن سداد الديون المستحقة، سوف نشهد جميع هذه المشاكل القبيحة والفظيعة»، مشيرا في حديثه الى «الفتية في فرنسا الذين كانوا يلقون الزجاجات الحارقة على السيارات وأحرقوا المدارس لتغيير سن التقاعد من 60 عاما الى 62 عاما».
موقف الولايات المتحدة اليوم يتمثل في أنها تقترض حوالي 40 سنتا مقابل كل دولار تنفقه. وقد تضاعفت الدعوات في واشنطن من أجل اتخاذ تدابير بهذا الخصوص في الأشهر الأخيرة، الأمر الذي أشعل ما يطلق عليه البعض النقاش الأشرس بشأن السياسات المتعلقة بالمالية والميزانية منذ عقود.
المخاطر كبيرة. واذا ما تسرعت الحكومة في اتخاذ تدابير تقشفية واجراء خفض كبير وسريع جدا في النفقات، فان ذلك قد يؤدي الى اعاقة الانتعاش الاقتصادي. لكن اذا لم يتمكن النظام السياسي من تحقيق نوع من التوافق على الخطوات التي من شأنها اعادة العجز الى مستويات محتملة، فان الخطر المحتمل ربما يكون أكبر: أزمة دين سيادية في أكبر اقتصاد في العالم.
فترة ضعف
يقول ايثان هاريس، الذي يعمل في بنك أوف أميركا ميريل لينش: «ان الاقتصاد يمر بفترة ضعف، لذلك لا أعتقد أنك تريد أن تدخل عمليات خفض كبيرة على العجز بأي حال من الأحوال، لكننا نلعب هنا لعبة خطرة وسوف نبدأ بدفع ثمن عدم المسؤولية المالية».
والخشية الكبرى تكمن في أنه في حال لم يتم اتخاذ أي اجراء، فان المستثمرين قد يلجأون الى معاقبة الولايات المتحدة على التسيب المالي. وهو ما من شأنه أن يزيد من تكاليف الاقراض على الشركات والمستهلكين واجبارها على اتخاذ تدابير تقشفية صارمة والمخاطرة بمواجهة اضطرابات اجتماعية. ولن يكون تصنيف الولايات المتحدة الائتماني الممتاز عند AAA وحده عرضة للخطر، بل قد يؤدي ذلك في مرحلة ما الى عواقب يمتد أثرها الى الشؤون الخارجية والدفاعية أيضا. وكان مايك مولين، رئيس هيئة الأركان المشتركة، قد حذر العام الماضي من أن الدين المتراكم قد يحد من مرونة الولايات المتحدة على تمويل قواتها العسكرية، الذي يرى فيه «التهديد الأكبر الذي يواجه أمننا القومي».
حتى الوقت الراهن، لم تظهر أسواق المال رد فعل تجاه التوقعات والنظرة المستقبلية القاتمة. فعائدات سندات الخزينة لأجل 10 سنوات، على سبيل المثال، تم تداولها حتى وقت قريب دون %3.4، وهو معدل قريب من المستويات المنخفضة التاريخية رغم ارتفاعه في الأشهر الأخيرة. ومع تزايد الأصوات المنادية بابرام اتفاق للتعامل ومعالجة المالية العامة المجهدة لأميركا، حتى وان ادى ذلك الى معالجة برامج مثل مزايا التقاعد والرعاية الصحية لكبار السن التي لطالما حظيت بالحماية لعدم المساس بها.
لكن أن يترجم هذا الخطاب المناهض للعجز في الموازنة العامة الى اجراءات تقشفية في الأشهر المقبلة، التي ستقودنا الى الانتخابات الرئاسية في 2012، فهو مثار شك كبير لسببين رئيسيين: الانقسام والاصطفاف السياسي الحاد واستمرار هشاشة الانتعاش الاقتصادي.
يقول فيليب سواجيل، الذي كان مسؤولا اقتصاديا كبيرا في ادارة الرئيس جورج دبليو بوش: «الأمر ليس ملحا، لكن عند مرحلة معينة سيصبح أكثر الحاحا. بالطبع الأسواق لا تعتقد أننا الأرجنتين، لكن ينبغي علينا أن نرسل لها اشارة تؤكد لهم صواب ما يفكرون وأننا سنعمل على معالجة المشكلة».
امتحانات في الأفق
وقد فشل اتفاق ديسمبر الذي يقضي بتمديد التخفيضات الضريبية لعهد بوش ومعونات البطالة في تقديم هذه الرسالة، والذي أضاف 858 مليار دولار الى العجز طويل الأجل دون أي تعهدات بادخال تخفيضات في المستقبل. ورغم ذلك يقول المؤيدون انه اذا ما أدت تلك التدابير الى انعاش الاقتصاد، فإن وضع الميزانية العامة للولايات المتحدة سيتحسن بدوره.
وتلوح في الأفق امتحانات أكبر بشأن مدى التزام أميركا بالانضباط المالي. سوف يطرح الرئيس باراك أوباما اليوم، أولوياته التشريعية لعام 2011 في خطاب الأمة الذي سيلقيه في الكونغرس، ومن المتوقع أن تكون التدابير الخاصة بخفض العجز طويل الأجل ضمن تلك الأولويات.
ومن المؤكد أن فريق أوباما الاقتصادي الجديد يبشر بالخير لجهةالتشدد المالي، وهما جاك لو، كمدير للميزانية وجين سبيرلينغ، كرئيس لمجلس الاقتصاد القومي. وقد عاد الاثنان ليشغلا الأدوار نفسها التي لعباها في ادارة الرئيس بيل كلينتون في التسعينات، حين خفضت الولايات المتحدة العجز في الميزانية، من خلال مفاوضات بين بيت أبيض يرأسه رئيس ديموقراطي، وكونغرس ذي أغلبية جمهورية. وقد انتهت فترة رئاسة كلينتون بميزانية، تتمتع بفائض مالي.
لكن قلة تتوقع من الإدارة أن تتبنى نهجاً قوياً وشديداً كالذي يسعى إليه بعض الديموقراطيين البارزين، مثل جون بوديستا، من مركز التقدم الأميركي، المؤسسة البحثية التي تتمتع بصلات وثيقة مع البيت الأبيض. ويشمل النهج، الذي يطالبون به، إدخال تخفيضات على البرامج الكبيرة مثل الضمان الاجتماعي، والرعاية الصحية، على أن تلحق بها سريعاً خطوة في اتجاه الإصلاح الضريبي، لكن من غير المرجح أن يتحقق ذلك، بسبب أنه قد يعرض الإدارة إلى وابل من الهجمات من كل من القاعدة الديموقراطية والجمهوريين.
لكن الجمهوريين، الذين سيطروا على مجلس النواب في انتخابات نوفمبر الماضي، والذين يعارضون الإنفاق الحكومي، يدور في ذهنهم أمر آخر فهم يطالبون بتخفيض النفقات على نطاق أكبر بكثير مما يمكن للبيت الأبيض والعديد من الديموقراطيين في الكونغرس تقبله. وقد يعملون على رفض أي محاولة من قبل الإدارة للمضي قدماً في إجراءات تحفيز جديدة.
وقد أظهر كثير من الجمهوريين عدم استعدادهم النظر في زيادات ضريبية في إطار حزمة لخفض العجز، والتي وفق ما يعتقد الكثير من الخبراء الاقتصاديين أنها مكون أساسي لأي صفقة ستعقد.
عجز الميزانية العامة الأميركية في السنة التي انتهت في سبتمبر الماضي بلغ نحو 1300 مليار دولار، ثاني أعلى مستوى له على الإطلاق. ومن المتوقع أن يتقلص العجز بصورة طبيعية خلال السنوات المقبلة، مع تقدم الانتعاش الاقتصادي، وبدء تضاؤل آثار التدابير الطارئة للإنفاق، والتي اتخذت أثناء الركود الاقتصادي.
جيل عجوز
لكن هذا الوضع المريح سيكون مؤقتاً، لأنه وبسبب تقاعد جيل طفرة المواليد التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والذي بدأ بشكل جدي هذا العام، سوف يزيد من تكلفة البرامج الحكومية للتقاعد والرعاية الصحية. ووفق تقرير صدر الشهر الماضي عن لجنة حول استقرار المالية العامة تضم 18 عضو برلمان من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، فإن عائدات الضريبة في 2025 سوف تكفي لتمويل مدفوعات الفوائد، المتوقع لها أن ترتفع من مستواها الحالي عن 200 مليار دولار سنوياً إلى أكثر من 1000 مليار دولار، وبرامج الحكومة للمزايا والمنافع، ولن يكون هناك مجال لأي شيء آخر.
ويحذر التقرير «كل نشاط حكومي فدرالي آخر من الدفاع القومي والأمن الداخلي إلى النقل والطاقة، سيتم سداد نفقاته من الأموال المقترضة». وبحلول 2035، قد يؤدي ارتفاع المديونية إلى خفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بما يصل إلى %15. ومن شأن ذلك أن يعني خفضاً حاداً وقاسياً في مستوى معيشة الأميركيين.
التأثير على الأسواق
هذه الصورة القاتمة قد تتسبب في نهاية المطاف في أزمة في أسواق المال العالمية، كما أنها الدافع الذي قاد اللجنة، التى يرأسها أيرسكين بولز، كبير موظفي البيت الأبيض في عهد كلينتون، وآلان سيمبسون، السناتور الجمهوري السابق عن وايومينغ، إلى محاولة من النادر أن تجرب في واشنطن: صياغة خطة مفصلة لحل مشكلات الميزانية للدولة، وتقديم لمحة ملموسة للأميركيين والمشرعين عما يتطلب الأمر لإصلاح المشكلة.
وتوصي الخطة بخفض العجز بإجمالي قيمته 3900 مليار دولار بحلول 2020، بنسبة ثلاثة إلى واحد من خفض النفقات إلى زيادة الضرائب، وتقترح اللجنة زيادة سن التقاعد وكبح جماح الرعاية الصحية الحكومية، والحد من الإعفاءات الضريبية الشعبية، مثل القدرة على خصم الفوائد المدفوعة على الرهن العقاري.
بعض الخيارات المحتملة الأخرى مثل ضريبة الاستهلاك أو ضريبة القيمة المضافة أو فرض ضريبة على الكربون، وضعت على الهامش لعدم قابليتها التطبيق. وقد ساهم ذلك في الحصول على مستوى مفاجئ من الاتفاق على تلك التوصيات، مع تصويت 11 من أعضاء اللجنة لمصلحتها، بمن فيهم 6 من المشرعين. لكن ذلك لم يكن كافياً للحصول على طرح التوصيات للتصويت في الكونغرس.
إن فشل لجنة سيمبسون – بولز للوصول إلى البداية المطلوبة هو ما سيترك مصير المالية العامة الأميركية بين أيدي العملية السياسية العادية، من البيت الأبيض إلى رؤساء اللجان في الكونغرس. وبالعودة إلى أزمة الدين الأوروبية، أعلن ريان: هذا ليس ما نحن عليه، وهو ليس المصير الذي نرغب في أن نصل إليه.
ومع ذلك، فإن تجنب ذلك المصير، واستنهاض حقبة جديدة من المسؤولية المالية للولايات المتحدة، يتطلبان مستوى من الانسجام والتناغم السياسي الذي، ورغم تزايد الوعي حيال المشكلة، إلا أنه ما زال، كما يبدو، بعيد المنال.