زهير حمداني – في مدينة كوزموبوليتية مثل العاصمة الماليزية كوالالمبور، لم يكن العالم الفلسطيني الشاب فادي البطش بعيدا عن أعين الموساد. اغتيل الراحل فجرا برصاصات غادرة طالت قبله التونسي محمد الزواري وقافلة من العلماء العرب منذ خمسينيات القرن الماضي، ضمن مخطط إسرائيلي لاغتيال العقول العربية مازال يلفه الغموض.
واغتال مسلحان كانا على دراجة نارية البطش (35 عاما) وهو متوجه لصلاة الفجر السبت في كوالالمبور، ورجحت السلطات الماليزية ارتباطهما بأجهزة استخبارات أجنبية، في حين حملت العملية بصمات جهاز الموساد، الذي لم يعلن يوما رسميا تنفيذ مثل هذه العمليات، وهللت وسائل الإعلام الإسرائيلية باغتيال العالم الغزاوي الراحل.
لم يكن الراحل -المختص في الهندسة الكهربائية- منخرطا عمليا في مشروع عسكري لصالح حركة حماس أو أي بلد عربي، لكنه كان يحمل كل ما يجعله هدفا لإسرائيل، ويدخله ضمن لائحة جهاز استخباراتها (الموساد) صاحب الباع الطويل في التصفيات.
فالبطش باحث شاب ألمعي ومتفوق وموهوب في مجال تخشاه إسرائيل، وفوق ذلك هو ملتزم ومقتنع بفكرة المقاومة وبالحقوق العربية في فلسطين وضمان التفوق النوعي
بطريقة صامتة -ودون اعتراف مباشر- يصفي الموساد الكثير من العلماء العرب بكواتم الصوت وحرقا، وبقنابل لاصقة وتفجيرات عن بعد، وحوادث سيارات غامضة. ولا يركز الجهاز كثيرا على جنسية العالم المستهدف وانتمائه الفكري والعقائدي، لكن هدفه يبقى إجهاض أي فكرة أو مبادرة تشكل خطرا على تفوق إسرائيل العسكري والعلمي النوعي في المنطقة، وبالتالي وجودها.
ويلحظ في السنوات الأخيرة كيف أن جهاز الموساد توجه إلى اغتيال العلماء الفلسطينيين والعرب ممن اخترقوا هذا الحاجز وشارفوا على ضرب أسطورة التفوق الإسرائيلي في مقتل والتأسيس لقوة ردع عن طريق الصواريخ والطائرات المسيرة، أبرزهم المهندس التونسي محمد الزواري الذي اغتيل في مسقط رأسه بمدينة صفاقس التونسية، في 15 ديسمبر/كانون الأول 2016.
ويأتي اغتيال الزواري وبعده البطش ضمن مخطط التصفيات الممنهج وإستراتيجية إسرائيل من أجل هدم فكرة التقدم والنهضة والمقاومة بجميع أدواتها، خاصة في جانبها العلمي، وإخافة العلماء العرب للتخلي عن فكرة الوطن والتقدم والنهوض ودفعهم إلى الهجرة.
وفي هدف مهم بالنسبة لها، ركزت إسرائيل مؤخرا على اغتيال العقول الفلسطينية -أو العربية- التي قد تحقق خرقا علميا وتكنولوجيا للمقاومة الفلسطينية.
وحول اغتيالات الموساد يكشف الكاتب الإسرائيلي رونين بيرغمان في كتاب صدر مؤخرا بعنوان “انهض واقتل أولاً: التاريخ السري للاغتيالات المستهدفة في إسرائيل”- وهو عنوان مستوحى من نصوص التوراة- عن أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية اغتالت منذ الخمسينيات أكثر2700 من العلماء والسياسيين والأدباء والمفكرين والفنانين العرب، خاصة من الفلسطينيين، ومعظم هذه العمليات غير معلومة.
وتشير التقارير واعترافات ضباط من الموساد ومذكرات قادة الكيان الإسرائيلي إلى أن قسما خاصا في جهاز الموساد يعمل على متابعة أسماء وأنشطة العلماء العرب المؤثرين والواعدين في بلدانهم وخارجها ووضعهم في لوائح الاغتيال، وقد تأسس منذ نشأة إسرائيل عام 1948، وقبل تأسيس جهاز الموساد ليتطور عمل هذه القسم لاحقا ويتشعب.
ويمكن الإشارة إلى ما ورد في مذكرات أخرى لضباط مخابرات إسرائيليين مثل كتاب “عن طريق الخداع” لضابط الموساد السابق فيكتور أوستروفسكي، والتي كشفت عن عدة اغتيالات لعلماء وسياسيين عرب (يحيى المشد مثالا)، وخصوصا تصفية الموساد مئات من العلماء العراقيين بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، وكذلك العلماء السوريون منذ بداية الثورة عام 2011 وقبلها، مثل اغتيال مدير المشروع النووي محمد سلمان في منزله بطرطوس عام 2008.
الذرة والصواريخ
يكشف كتاب “الموساد – العمليات الكبرى” للكاتبين الإسرائيليين ميخائيل بار زوهار ونيسيم ميشعال كيف أن المؤسستين الأمنيتين الموساد والشين بيت أصبحتا يد إسرائيل الطولى في العالم العربي، وكيف استطاعت الحصول على المعلومات اللازمة عن “أعداء إسرائيل”، والوصول إلى أهدافها عبر شبكة تجسس واسعة ومعقدة تنتشر في معظم العواصم العربية والإسلامية، وتستخدم تقنيات عالية في التعقب والتنفيذ.
وإذا كانت إسرائيل تستهدف العقول العربية في كل المجالات، فقد ركزت على علماء الذرة والصواريخ خاصة، ونشطت عمليات الموساد في هذا الخصوص منذ خمسينيات القرن الماضي، في فترة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر (1952-1970) حيث سعت إسرائيل لضرب فكرة اكتساب مصر القوة العسكرية، خاصة النووية.
ففي سنة 1953، قتلت إسرائيل عالمة الذرة المصرية سميرة موسى في ظروف غامضة، كما اغتيل العالم سمير نجيب بعد قراره العودة لبلاده بعد نكسة يونيو/حزيران 1967، وتم أيضا اغتيال عدد من العلماء الألمان الذين كانوا يشاركون في المشروع الصاروخي المصري في الخمسينيات والستينيات.
ورغم أن العالم المصري علي مصطفى مشرفة – الذي لقب بإنشتاين العرب- توفي عام 1950 إثر أزمة قلبية، فإن شكوكا كثيرة تشير إلى تورط الموساد في قتله بالسم وكان مقتله باكورة عمليات الموساد في مخطط تصفية الأدمغة العربية.
وقتل العالم المصري سعيد السيد بدير المتخصص في مجال الهندسة التكنولوجية الخاصة بالصواريخ والاتصال بالأقمار الصناعية والمركبات الفضائية -عام 1989 بعد عودته لمصر من ألمانيا.
وقبل بدير وبعده تمت تصفية علماء كثر في ظروف غامضة حملت كلها بصمات جهاز الموساد، من بينهم اللبنانيين حسن كامل الصباح ورمال حسن، والمصريين نبيل القليني ورفعت همام، والفلسطيني نبيل أحمد فليفل وغيرهم، ضمن قائمة طويلة تشمل جميع المجالات.
جهاز الموساد ركز منذ سبعينيات القرن الماضي على تدمير المشروع النووي العراقي، فضرب مفاعل تموز عام 1981، وقبل ذلك وفي 14 يونيو/حزيران 1980 اغتال الموساد عالم الذرة المصري المشرف عليه يحيى المشد في فندق الميريديان في باريس وهو ما أكده كتاب “عن طريق الخداع”.
وتشير تقارير إلى أن الموساد نشط في فترة ما بعد احتلال العراق في اغتيال العلماء العراقيين، خاصة في مجال الذرة، وتشير بعض التقديرات إلى أن عددهم يقدر بالآلاف ( بينهم 350 عالما نوويا وفق بعض التقارير).
وأقرت إسرائيل بداية العام الجاري بقصف المفاعل النووي السوري في دير الزور عام 2007 وتدميره، واغتيال عدد من العلماء السوريين، لكنها أكدت أيضا كيف كان هذا البرنامج مخفيا عليها لست سنوات، وهو ما حصل مع البرنامج النووي الليبي، الذي لم تكتشف حجم تقدمه إلا بعد تفكيكه من قبل العقيد الراحل معمر القذافي في صفقة مع الغرب عام 2004.
ورغم أن جهاز الموساد فشل لأكثر من مرة في تنفيذ اغتيالات أو عمليات خاصة في العالم العربي – لعل أبرزها عملية اغتيال خالد مشعل في عمان عام 1997- تواصل إسرائيل شن حربها المفتوحة على الكفاءات والأدمغة العربية بأساليب جديدة، وتخصص الموارد الضخمة لتنفيذ تلك الجرائم التي تصنفها ضمن الحرب الوقائية.