كتبت راغدة درغام ليوم الجمعة 4 أيلول/سبتمبر – استصغار الدول الكبرى للشأن اللبناني ترك الساحة مفتوحة أمام استهتار الدول الإقليمية الفاعلة بلبنان. الحركة الشبابية التي بدأت بشعار «طلعت ريحتكم» سعت وراء إيقاظ الأسرة الدولية من سباتها لعل صحوتها تفرض تغييراً على رجال الطبقة السياسية الحاكمة وتدفع بهم إلى الكف عن الاستعلاء على الدستور وحقوق الناس مثل حقهم برئيس جمهورية وحقهم بتنظيف البلد من النفايات، والكف أيضاً عن الجشع والفساد.
استدعاء الحراك المدني الشبابي للتدخل الدولي هدفه استدراج الضغوط الدولية على الدول الإقليمية الفاعلة في لبنان لتتفاهم عبره على عدة أصعدة بدءاً من ملفات النفايات والكهرباء، مروراً بانتخاب رئيس للجمهورية، انتهاء بصيانة هذا البلد الصغير من الانسياق إلى حرب أهلية أو حروب بالنيابة أو انتقال للمعارك بين «حزب الله» و «جبهة النصرة» و «داعش» من الأراضي السورية إلى أراضي لبنان. توجهت الأنظار فوراً إلى الولايات المتحدة لأنها الأكثر قدرة على التأثير في اللاعبين الأساسيين في هذه الفترة الدقيقة. فقد بات لواشنطن تأثير في طهران نظراً لحاجة المرشد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني إلى موافقة الكونغرس على الاتفاق النووي الذي يرفع العقوبات المفروضة على إيران. ومع بدء المناقشات في الكونغرس قريباً، تبرز فرصة استخدام النفوذ الأميركي مع اللاعب الإيراني لعله يؤثر في لبنان عبر علاقته التحالفية مع «حزب الله» نحو التوقف عن التعطيل كسياسة وعن استدراج الفوضى والفراغ كهدف مدروس عواقبه وخيمة. التوقيت، إذن، مهم للحراك الشعبي، أما الأهداف فإنها كانت مركّزة لدقائق، ثم تبعثرت، ثم تم اختراقها واختراق صفوف المتظاهرين المدنيين، ثم عاد أقطاب هذه الحركة وبدأوا يلملمون أنفسهم. هذا طبيعي في بداية حراك كهذا، لكنه خطير عليه. فأهم ما فعله الحراك الشبابي هو صفع الطبقة السياسية صفعة حادة فاجأتها بعدما كانت افترضت أن قبضة سيطرتها لن تسمح لأي كان أن يجرؤ على الاحتجاج. والأمر المهم الآخر هو أن الحركة الشبابية انطلقت من إبلاغ الفريقين الأساسيين المعروفين بـ 8 آذار و14 آذار أن كليهما معاً لا خير فيه وكل من أقطاب الفساد فيهما يجب أن يُحاسب.
هناك مثال لبناني يقول «طق شرش الحيا» أي أن ما آلت إليه الطبقة السياسية من تحقير للمواطن اللبناني ومن ملء الجيوب الخاصة بأموال عامة وعمولات وصل إلى مستوى لا يقلق الضمير ويترفع عن الحياء.
لبنان يمكن وصفه بأنه بلد رائع بتنوعه وبحره وجباله، شعبه مثقف، نسبة العلم فيه عالية، أهله يحبون الحياة، الإبداع فيه مميز، يتساوى فيه الكرم مع التفكير بحرية. مشكلته ميزته انه بلد التنوع دينياً واثنياً، فلا أكثرية في لبنان لأنه بلد الأقليات، ولا يهم إن كانت هذه الأقلية بنسبة 33 في المئة أو 38 في المئة. فالجميع أقليات. وما حدث هو أن القيادات السياسية تناست طبيعة الذين ينتمون إلى الأقلية التي تمثلها، فاختارت أن تعاملهم كقطيع للسياسي أو كقبيلة للزعيم. هكذا حقّرت القيادات السياسية المواطن ولجأت إلى استخدام الناس في تبعية وتعبئة بدلاً من تعزيزهم في المواطنة. وهكذا برز صنف من اللبنانيين ذوي التبعية والطائفية والتخوين والكراهية، لكن الصنف الآخر من الذين أرادوا الحق بالمواطنة والمساواة في المسؤولية لم يمت.
لن تكفي الدعوات إلى طاولات حوار بين القيادات الحزبية وقيادات التيارات والكتل لأن عدم الثقة بتلك القيادات والحوارات بلغ الذروة ولأن البلد يُستَنزف عمداً بقرارات مدروسة. المطلوب هو أن يتوجه النواب إلى عملهم، الذي يتقاضون أجرهم وامتيازاتهم وصلاحياتهم للقيام به، لانتخاب رئيس جمهورية، وإلا فإنهم مجرد أداة في إدارة الفوضى المقصودة للبلد.
لقد أصاب الطبقة السياسية نوع من الصدمة لأن حركة المطالبات لم تختف من الشوارع بعد «فشة الخلق» من الزبالة والبطالة والظلام بلا كهرباء ولا طريق منوّرة إلى المستقبل. افترضت هذه الطبقة أن الحركة الشبابية مجرد «نزهة»، وأن هناك ما يكفي من اختراقٍ للحركة ومن توريط لها لتتحول سريعاً إلى تمرد عابر أزعج الطبقة السياسية الحاكمة قليلاً ثم عبر – «قطوع ومضى» كما يقال.
ثم إن بعض المخضرمين من السياسيين استنفر ذخيرة جاهزة دوماً لحرق أية أوهام لدى أية حركة مدنية – ذخيرة «الفتنة» بسلاح الطائفية. هذا السلاح فتك بلبنان في حروب طائفية تُرعب اليوم الجيل الذي عاشها، ولذلك يخضع. هذا السلاح وسيلة متأهبة للإخضاع، ولذلك أن ذلك اللبناني المثقف الذكي الواعي المطلع يخضع.
بالتأكيد، أن أكثرية القيادات الحزبية جهّزت «شارعها» الذي تتكئ إلى مخاوفه كأقلية وتقوم بتعبئته طائفياً ومذهبياً. أما أن تجرؤ حركة شبابية أن تعبر أسلاك التعبئة الشارعية المنظمة تحت قيادة حزبية، فإن ذلك هو القاسم المشترك الذي يجمع الأعداء السياسيين لأنه تطاول على شارع كل منهم.
«انزلوا» – هذا التعبير كان ملك القيادات السياسية الحزبية بأوامر تصدرها هي فقط «لتحريك الشارع» لغايات حزبية أو تخريبية أو تخويفية أو مذهبية. هكذا هي عقلية تحقير المواطن، عقلية إملاء الديكتاتورية مهما تم تزييفها بأقنعة، عقلية تحطيم الرأي العام عمداً في رأي مقنن ضيّق خاضع ومنظم في شارع هذا وشارع ذاك.
نزلوا، أولئك الذين قرفوا من رائحة الزبالة والفساد في حركة «طلعت ريحتكم» التي وصفت كيف فضحت أزمة النفايات الطبقة السياسية وأتباعها من المنتفعين وفضحت معها أزمة الكهرباء التي لها تاريخ حافل من الفساد والقفز على ممتلكات الدولة وعلى حقوق الناس. تبعتهم حركات بأسماء مختلفة بينها «بدنا نحاسبكم». ماذا؟ هل تجرأت حركة احتجاجية على التحدث بلغة حق المواطن والرأي العام على محاسبة الحكام الذين نصبوا أنفسهم طبقة مميزة بامتياز وامتيازات؟
الذين تجرأوا يستحقون الدعم والتوعية معاً. فهم عبروا الخطوط الحمر التي أجمعت عليها القيادات الحزبية، وهي أن «الشارع» ملك لها للاعتصام وللتعطيل وللتعبئة وللطائفية ولزرع الرعب في قلوب الخائفين من عودة الحرب الأهلية. فمن تجرأ على استعادة الشارع ليكون ساحة احتجاجية جدية عازمة على الاستمرار عليه مسؤولية الوعي وتجنب الأخطاء.
لا بد من ارتكاب بعض الأخطاء من حركة ناشئة تجرأت على كسر تقاليد الافتراق على وقع الطائفية فجمعت مختلف الأديان والمذاهب في تمرد مدني سلمي على الطائفية كما على الانتماء التلقائي في تقسيم المجتمع بين 8 آذار و14 آذار. فكلا الكتلتين أو التجمعين أساء إلى المواطنية الجامعة وقنّن الانقسام في خدمة مصالح ضيّقة. وهكذا خسر كل من 8 و14 آذار الرأي العام الجدي الذي كان في صفوفه في البداية وبات اليوم خارجه.
تجنب الأخطاء يبقى ضرورة لأن خطأ واحداً قد يلعب أوتاراً طائفية وحرباً أهلية، وخطأً آخر قد يؤدي إلى تعزيز الفراغ المطلوب أساساً من قبل بعض القوى السياسية. على أقطاب التمرد المدني ألا يرتكبوا مثل هذه الأخطاء. يجب على المنظمين إدراك المطبات والتحلّي بوعي سياسي، وإلا فإن الاستقطاب يترصد بالحركة الاحتجاجية الجديدة على الساحة اللبنانية والتي صدمت القيادات التقليدية.
يجب أن يكون التمرد على الفراغ في المؤسسات، وليس إفراغ مؤسسات الحكومة بانتقائية. إحداث الفراغ بإقالة أو بفرض استقالة هذا الوزير أو ذاك يعني إدخال البلد في دوامة فوضى لن يكون في الوسع ضبطها. فسيأتي يوم المطالبة باستقالة الحكومة أو بإقالتها، إنما شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي ينادي به البعض في التظاهرات إنما هو استخدام صبياني لشعار ارتبط بمصادرة الثورة التي رفعته وبات أيضاً محط شكوك. «إسقاط الحكومة» مطلب ساذج سياسياً لأنه يخدم تكتيك إحداث الفراغ. والتمرد يجب أن يكون على الفراغ وعلى الفوضى المطلوبة من بعض الجهات.
لعبة الاستقطاب التي مارسها معظم الوسائل الإعلامية، بالذات التلفزيونات اللبنانية، ومحاولاتها اختراق الحركة الشبابية ببشاعة اللامهنية إنما تشكل إهانة لذكاء الشباب والشابات وتعرّي لا صدقية هذه المؤسسات. هذا تعدّ على أصول المهنة كما انه تحريض يخدم الطبقة السياسية المتسلطة بمختلف ألوانها. انه محاولة إجهاض لنقاء الحركة الاحتجاجية المطلبية المدنية الشبابية.
ربط التظاهرات المحلية بالساحة الدولية ليس اعتباطياً أو عشوائياً لأن لبنان ساحة تجاذبات إقليمية ودولية عاجز عن الاستقلال عن الاستقطاب الإقليمي. أولى خطوات إحياء الاهتمام الدولي بالحدث في لبنان أتى عبر ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان، سيغريد الكاغ، في طلبها استماع مجلس الأمن لإحاطة منها في جلسة انتهت بموقف جماعي للمجلس.
ما صدر عن مجلس الأمن ليس قراراً ملزماً ولا هو بيان رئاسي إنما يبقى مهماً لأن التظاهرات الشبابية لفتت انتباه هذا المجلس إلى ما سبق وتجاهله تكراراً باعتباره مسألة «أصغر» مما يلتهي به مثل المسألة السورية.
وجه المجلس رسالة موحدة دعا فيها إلى الإسراع بانتخاب رئيس للجمهورية «لإنهاء عدم الاستقرار في عمل المؤسسات الدستورية» وأكد على انه «يتابع الوضع في لبنان عن كثب دعماً لوحدة لبنان وسيادته واستقراره واستقلاله للبنان وشعبه». وحذرت سيغريد الكاغ في الجلسة المغلقة من «إمكانية تزايد النقمة» على الحكومة في حال عدم تحقيق تقدم لحل القضايا السياسية وتلك المتعلقة بالخدمات العامة. وقالت إن القضية المركزية في لبنان هي «الجمود السياسي وخطورة فقدان الثقة العامة بالحكم».
رسالة الكاغ مهمة لأنها نبهت الأسرة الدولية إلى المطالب الأساسية التي يجب أن تبقى أولوية الحركة المدنية، ولأنها ساعدت على شرح الوضع الخطير في لبنان لسفراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن، داعمة بذلك جهود السفراء في لبنان الذين يجهدون لاستدراج اهتمام عواصمهم بالوضع اللبناني.
الحركة الاحتجاجية الإصلاحية الغاضبة من الفساد التقطت أنظار واشنطن. النصائح الديبلوماسية ضمن إدارة الرئيس باراك أوباما هي أن ملف لبنان أكبر من حجمه، وأن الحلول الجذرية تكمن في العلاقة السعودية – الإيرانية، وأن في وسع الرئيس الأميركي الاستثمار لصالحه في الحركة المدنية ليس عبر التدخل المباشر وإنما عبر اختبار حسن نوايا الأطراف الإقليمية ولعب دور الراعي للتقارب بينها.