استطلعنا آراء عدد من المسؤولين وخبراء الاقتصاد والمستثمرين بشأن
قدرة الحكومة المصرية على تدبير الموارد المالية اللازمة لتطبيق الحكم،
ومدى إمكانية استجابة القطاع الخاص أيضا لزيادة الرواتب، وتداعيات تنفيذ
ذلك الحكم على الوضع الاقتصادى العام للدولة، فضلاً عن السيناريوهات
المقترحة للتعامل مع هذا الحكم.
وأكدت الغالبية أن الحد الأدنى للدخل في مصر لا يتوائم مع الأسعار
المرتفعة وتكاليف المعيشة التي تزداد بشكل جنوني، لذلك طالبوا بتفعيل
الحكم بشرط وضع نظام رقابي وتعاوني فعال للسيطرة على الأسعار بالسوق
المحلي، حتى لا تتحول الزيادة الجديدة في الدخل إلى مزيد من الأعباء وزحف
لمعدل التضخم الذي يعاني منه المجتمع.
الدكتور فاروق حسنين، وزير مفوض تجاري سابق وممثل مصر الأسبق لدى منظمة
الجات بجنيف، أكد أن السيناريوهات المقترحة لتعامل الحكومة مع الحكم لا بد
أن تتضمن البدء بإعادة ترتيب الأولويات لتنفيذ الحكم وفق جدول زمني، نظراً
لعدم قدرة الحكومة على تنفيذه بشكل فوري، موضحاً أن ارتفاع معدلات البطالة
وانخفاض مستويات الأجور وزيادة الأسعار عوامل أدت جميعها إلى إصدار الحكم.
وأشار إلى أن متوسط الدخل لـ40% من المصريين يساوى دولاراً واحداً يومياً،
الأمر الذي وصفه بالكارثة، مشيراً إلى أن الفكرة الأساسية ليست رفع الحد
الأدنى للدخل، لكن إصلاح العلاقة المختلة بين الدخل وتكاليف المعيشة،
مطالباً بتخصيص أجهزة تقوم برصد جميع المتغيرات السعرية بالسوق المصرية،
وتحديد الدخل على أساسها، موضحاً أن القضاء ليس مسؤولاً عن كل خلل أو قصور
يحدث، لكن يجب على كل مؤسسة أن تراعي سير العمل داخلها ومستوى موظفيها
لرفع مستوى الإنتاج العام ومن ثم الدخل القومي.
وأكد
حسنين أن تنفيذ حكم المحكمة الإدارية فورياً أمر مستحيل، إذ لا بد من
توافر الموارد المالية اللازمة للتنفيذ، ورفع مستويات الإنتاج لتناسب
مستويات الشراء الجديدة بعد رفع الحد الأدنى للدخول، وإلا سيرتفع معدل
التضخم بشكل أسوأ، وتزيد الأسعار وينقلب الحال إلى عبء مضاعف على المواطن
بدلاً من التفريج عنه.
وأشار إلى أن تطبيق الحكم مرهون بشروط لا بد من تحقيقها أولاً، ومنها
ضرورة خلق أسلوب جديد للإنتاج والتوزيع يضمن أن تكون الأسعار اجتماعية
وليست تجارية، لمنع الاستغلال والاحتكار، بالإضافة إلى ضرورة إعداد وإنشاء
مجلس قومي للأسعار يضم في عضويته مجتمع الدولة والخبراء والنقابات ومراكز
البحوث وغيرهم من المتخصصين.
وطالب باحترام كافة قرارات ذلك المجلس الجديد المقترح بإنشائه، نظراً لتعبيره عن معاناة المواطن الحقيقية.
أما عن تداعيات تنفيذ الحكم على الوضع الاقتصادي فأشار إلى أن التنفيذ في
ظل غياب الشروط السابقة من المتوقع أن يؤدي إلى زيادة الأسعار، وتحول
الزيادة في الأجور إلى صالح التجار وليس المستهلكين، وبالتالي زحف التضخم
وزيادة معدلاته وانقراض الطبقة المتوسطة التي تلاشت بالفعل بشكل كبير، ومن
هنا لا بد من تواجد نظام تعاوني ورقابي فعال يحدد جزءاً من هامش الربح
للتجار، وضرورة وضع جدول زمني لإعادة السيطرة على الأسعار، مع حتمية إعداد
نظم جديدة لوصول السلع إلى المستهلكين من خلال مشاركتهم في الإنتاج
والتوزيع.
وأضاف بحسم: “المواطن لا بد أن يحصل على دخل يوفر له مستوى الكفاية (حياة
آدمية مريحة) ولا يتحول إلى كائن يزحف للحصول على مستوى الكفاف”.
“المعايير
التي تحدد على أساسها وزارة التنمية الحد الأدنى للدخل لا تراعي الزيادات
الجنونية بالأسعار”.. هذا ما أكده ممثل اتحاد العمال بالمجلس القومي
للأجور عبدالرحمن خير، موضحاً أن ارتفاعات الأسعار يعاني منها المواطن
مراراً وتكراراً، ونتيجة لذلك صدر حكم المحكمة الإدارية بتحديد حد أدنى
للدخول، موضحاً أن المجلس قدم العديد من الاقتراحات للتعامل مع حكم
المحكمة، ومنها تحديد 500 جنيه كحد أدنى لدخل العامل عديم المهارة، و750
جنيه لمتوسط المهارة و1000 جنيه للعامل مرتفع الخبرة والمهارة، وبذلك سيتم
تقسيم الدخل بحسب مهارة وخبرة كل عامل.
وأوضح أن الوضع الحالي للمجتمع المصري وضع مشوه، ولا بد من مراجعته،
والعمل على إصلاحه، مؤكداً أن الفجوة واضحة بين أجور العاملين حتى في
المؤسسة الواحدة، والأسعار ترتفع دون رقابة أو مراعاة لمستوى معيشة موظفي
الحكومة، مشيراً إلى أن الحديث عن رفع الحد الأدنى للأجر توقف منذ العام
2008 وتبع ذلك اقتراح برفع الحد إلى 300 جنيه، وهو ما رفضه مجلس الأجور.
وأشار إلى أن تنفيذ الحكم سيؤدي إلى ارتفاع إنتاجية العامل والتزامه
بوظيفته الأساسية دون توزيع جهوده على أكثر من جهة، مؤكداً أن رجال
الأعمال ومنهم أصحاب مصانع الغزل والنسيج أبدوا موافقتهم على رفع الحد
الأدنى للدخل، إيماناً منهم بدور ذلك في رفع إنتاجية العامل وتحسين أدائه
الوظيفي، موضحاً أنه كلما ارتفع مستوى أداء العامل وخبراته ومهاراته لا بد
أن يتبع ذلك ارتفاع بالحد الأدنى لدخله.
وأضاف: “معايير وضع الحد الأدنى للدخل أهمها أن يكون ذلك الحد أعلى من خط
الفقر القومي، ولا بد أن يكون أقل من نصف متوسط الأجور السائدة بالمجتمع”.
وأوضح أن قرار وزارة التنمية الاقتصادية بتحديد 400 جنيه كحد أدنى قوبل
بالرفض من المجلس القومي للأجور، وجاري حالياً التفاوض حول القيمة، مؤكداً
أن الحكومة تستطيع توفير الموارد المالية اللازمة لتطبيق حكم المحكمة
الإدارية.
من جانب آخر، أكدت د. ليلى البيلي، رئيس مجلس إدارة شركة “رويال جروب”
وعضو مجلس إدارة بالغرفة التجارية، أن الدخل الذي تم تحديد قيمته بـ1200
جنيه كحد أدنى لا بد أن يتحصل عليه العامل الماهر مرتفع الخبرة وليس
العامل معدوم الخبرة: “فليس من المنطق أن أقدم دخلاً مرتفعاً لعامل لن
يضيف إلى المؤسسة إلا القليل، وبالتالي اهتمام العاملين بصقل خبراتهم ورفع
مهاراتهم لا بد أن يتبعه زيادة في رواتبهم”.
وأوضحت أنه توجد صعوبة في تدبير الحكومة المصرية لتلك الأموال، لكنها
مسؤوليتها في المقام الأول، بالإضافة إلى أنها مسؤولية العاملين الذين لا
بد أن يقوموا برفع معدل إنتاجيتهم لرفع معدل الدخل القومي ومن ثم خلق
القدرة على رفع الحكومة مرتباتهم.
وقالت ليلى إن حكم المحكمة الإدارية يمكن تطبيقه بشرط زيادة الإنتاج
والدخل القومي، موضحة أن القطاع الخاص تحديداً لا يحتاج إلى حكم محكمة حتى
يقوم برفع أجور العاملين لديه، فصميم عمل ذلك القطاع يتضمن الاستفادة من
جميع الخبرات والمهارات المحدودة بالسوق، وبالتالي يقدم رواتب تحقق مستوى
معيشي كريم لمن يعمل لديه.
أما
د. جودة عبدالخالق، الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة
القاهرة ورئيس اللجنة الاقتصادية بأحد الأحزاب، فأكد أن جميع دول العالم
المتقدمة منها والنامية تقوم بمراجعة قيمة الحد الأدنى للدخل بشكل سنوي،
لتغييره طبقاً للظروف الاقتصادية والأسعار المحلية صعوداً أو هبوطاً،
موضحاً أن البرازيل على سبيل المثال تمتلك لجاناً ومجالس متخصصة في مراجعة
الحد الأدنى للأجور بشكل دوري وذلك على عكس ما يتم تطبيقه في مصر، فالمرة
الأخيرة التي تم مراجعة قيمة الحد الأدنى للدخل فيها كانت منذ عام 1984.
وأشار إلى أن قيمة الحد الأدنى للدخل في تلك الفترة تم تحديدها بـ35 جنيه
(تساوى القوة الشرائية اللازمة للحصول على نصف كيلو لحم حالياً)، مطالباً
بتوفيق مستويات الدخول مع الأسعار، فعند تحديد الحد الأدنى للدخل لا بد أن
تراعى تكاليف المعيشة الحالية وقدرة المواطن الشرائية، وبالتالي توفير
مستوى دخل للعامل يمكنه من تلبية احتياجاته الأساسية وليس الكماليات.
يذكر أن الاتحاد العام لنقابات عمال مصر قد قرر، وفق تصريحات نشرتها الصحف
المصرية لعبدالرحمن خير، ممثل اتحاد العمال في المجلس القومي للأجور،
التقدم بطعن خلال الأيام المقبلة على قرار زيادة الحد الأدنى للرواتب إلى
400 جنيه شهرياً، معتبراً أنه يخالف الدستور، فيما أكدت وزارة التنمية
الاقتصادية أن لجنة الشكاوى بالمجلس مستعدة لتلقي شكاوى العمال بشأن تطبيق
قرار المجلس بزيادة الحد الأدنى للأجور.
وكان المجلس القومي للأجور قد قرر زيادة الحد الأدنى للأجور من 112 إلى
400 جنيه، خلال اجتماعه، لبحث تنفيذ حكم محكمة القضاء الإداري بوقف تنفيذ
القرار السلبي للمجلس بالامتناع عن وضع حد أدني للأجور، وألزم المجلس
المنشآت الاقتصادية بالحفاظ على المستويات الحالية لأجور العاملين لديها،
الذين يزيد متوسط أجورهم الشهرية عن 400 جنيه، مع ترك الباب مفتوحاً أمام
كل جهة لوضع حد أدنى لا يقل عن 400 جنيه، بالتفاوض بينها وممثلي العمال.
كما أقر المجلس تعديل الحد الأدنى للأجور بصفة دورية بما لا يزيد عن 3
سنوات، لضمان تناسبها مع المتغيرات الاقتصادية والمستوى العام للأسعار
ومعدلات التضخم وتكلفة المعيشة بشكل عام.