إكس خبر- لم تكن مجرد جلسة برلمانية ثالثة لمجلس النواب الجديد، تلك التي انعقدت أمس الأول الثلاثاء. كانت من المرات النادرة التي يشاهد فيها المراقبون “عرضاً مشوقاً” حسب وصف الصحافة المحلية، وسياسة محترفة! فقد كان الجمهور أمام طاولة واضحة، وضع الجميع عليها رهاناتهم، وقبضوا الجوائز، وأيضاً رسموا أمام الخصوم تلك الخطة البديلة، التي ستعالج داء السياسة العراقية متمثلاً بسيرة نقض العهود والالتزامات.
القضية باختصار كما يتحدث عنها الساسة هذه اللحظة، أن نوري المالكي رئيس الحكومة المنتهية ولايتها، رضخ أخيراً ووافق على الانسحاب وفتح المجال أمام مرشح آخر لرئاسة الحكومة يحظى بالقبول ويتمتع بمهارات التفاوض، للتعامل مع انقسام دموي شديد. لكنه طلب الأثمان الكبيرة. منصب نائب رئيس الجمهورية، ونائب رئيس البرلمان، ورئاسة الوزراء لبديل من حزبه أو كتلته.
ويبدو أن بعض معارضيه وافقوا على ذلك، قائلين إن تغيير فريق المالكي الحالي أمر شديد الأهمية للعراق ويستحق تنازلات كبيرة، خاصة تحت ضغوط إيران. أما الآخرون فرأوا في ذلك ثمناً باهظاً، سيعيد خيوط اللعبة إلى المالكي، الذي سيخرج من الباب ويعود من شباك الرئاسات الثلاث.
البداية حصلت في مجلس النواب الثلاثاء، حيث قدّم الشيعة حيدر العبادي المقرب إلى المالكي، لنيابة رئيس البرلمان. وقبلها كان رئيسه السابق أسامة النجيفي قد سحب ترشحه، كثمن إضافي بيد المالكي. وهنا بدأت الشكوك تساور الأكراد وبعض السُّنة وتيار مقتدى الصدر. مَن سيضمن أن المالكي سينسحب فعلياً بعد قبض الأثمان؟ هنا ظهرت الحاجة إلى داهية من طراز أحمد الجلبي، عراب الإطاحة بصدام حسين، الذي كرهه الجميع لحدته طوال سنوات، لكنه كان منذ 2010، أبرز المنخرطين في مراجعة عميقة لكل ما جرى، وبات من منظري الإصلاحات الضرورية، داعياً إلى تطبيع كامل مع المحيط العربي وتركيا. وقد فاجأ الجميع بإعلان ترشحه لمنصب نائب رئيس البرلمان، مخترقاً الاتفاق الداخلي الشيعي، ومثيراً حفيظة فريق المالكي. وبالفعل فقد نجح في منع مرشحهم من الفوز، ونجح دون تنسيق مسبق، ومع غياب نحو 50 نائباً من خصوم المالكي، في الحصول على 107 أصوات. ثم أعلن انسحابه سريعاً مُفسحاً المجال لفوز مرشح المالكي.
إبراهيم الجعفري رئيس الكتلة الشيعية، قال للجلبي أمام الكاميرات: أحمد، لقد وصلت رسالتك.
لم تكن رسالة شخصية، بل رسالة كل خصوم المالكي. ولم تكن موجهة إلى المالكي، بل كانت موجهة أيضاً إلى قاسم سليماني جنرال حرس الثورة الإيراني المكلف بملف العراق، والذي يمتلك أساساً علاقة طيبة بالجلبي، وإن كان حذراً من دهائه ودعواته لتصحيح الموازين.
كانت رسالة الجلبي أن أي إخلال بالتعهدات أو رغبة في خرق الالتزام قد تتملك المالكي، ستواجه خطة بديلة، تعبث بالأرقام والتصويتات داخل مجلس النواب.
ولم يكن الأمر سراً، فقد أبلغ المالكي بألف طريقة أن عدم انسحابه سيدفع الشيعة الآخرين إلى العمل بسرعة مع الأكراد والسُّنة والعلمانيين لبلورة حكومة جديدة، حتى لو أثير غضب طهران.
وطهران تستقتل هذه اللحظة، للإمساك بنصر رمزي في ساحات القتال، لتعلن أن مرشحها، المالكي، بدأ يستعيد زمام الأمور أمام “داعش”، شمالي بغداد بنحو 90 كم، في محاولة لتخفيف موقف مرجعية النجف الدينية الرافض لبقائه في السلطة، علماً بأن الجيش النظامي العراقي وجيش المتطوعين مُنيا بنكسة صعبة مساء الثلاثاء واضطرا للانسحاب.
ميزان المعارك لا يساعد سليماني، ورسالة الجلبي أقلقت طهران، وتمكن فريق المعارضين، رغم كل الانقسام السياسي، أن يقدم خطته المستقلة عن تأثير الإرادة الخارجية، تحت قبة البرلمان، لفرض ما يراه الطريق الأسلم لمواجهة “داعش”، والمشروط بالمرور من تحت خيمة التصالح. وهو أصعب المواقف سياسياً وعسكرياً، على الجميع، منذ سقوط صدام حسين.