الدين هو جوهر العقيدة ومرتكز الفطرة، والتدين سلوك يفضي في النهاية إلى تحقيق متطلبات العقيدة والتوازن بين الواجبات والمحظورات الدينية، إما تطبيقاً والتزاماً، أو إفراطاً وامتهاناً، وهناك فرق كبير بين الدين كمبدأ ثابت بتعاليمه وأحكامه وتعاملاته، وبين التدين كسلوك لفهم وتطبيق ذلك، وبالتالي يتفاوت الناس في الالتزام والتطبيق لمتطلبات هذه العقيدة من خلال مفهوم التدين، ومن هنا يبلغ هذا التفاوت درجات مختلفة لمستوى الاقتراب من درجات الورع والنزاهة والزهد والالتزام إلى ضدها من التفريط.
.. لكن الإشكالية أن هناك أشخاصاً نفوسهم مريضة يتمظهرون برداء الدين، ويتقمصون شخصية المسلم الزاهد التقي الورع، ويعملون على تكريس هذا المظهر، لدى أوساط العامة ومثلهم الخاصة، وأنهم أهل الدين، وحرّاس الفضيلة، أو أنهم في أقل الأحوال هم من أصحاب الالتزام الذي لا يقبل الحرام؛ لنجد أنفسنا أمام صورة مفرطة من صور «التدين المظهري» الذي لا يتجاوز كونه جلباباً أو رداءً لبسه كل من له غاية مرفوضة، ولنكتشف أن تحت هذا الرداء أو هذا القناع ما يسوء المراقب وما يندى له الجبين من أناس استغلوا الدين وهو جوهر الفطرة من أجل غاية أو غايات دنيئة!.
ولعله من الواجب، ومن الإنصاف أيضاً أن الغالبية ممن يتسمون بثوب التدين هم أهلٌ للتقوى والخير، ولا نزكي على الله أحداً، ولكننا هنا ننبه عن خطر فئة استغلت الدين باسم التدين، وأفرطت في ذلك الاستغلال إلى درجة الكذب والتدليس على الناس، وهؤلاء القلة لم يخرجوا عن صفة أهل النفاق والمنافقين التي أكدها الإسلام بحق هؤلاء، كاشفاً سترهم، ومحذراً منهم، وأن مآل المنافقين يوم القيامة إلى الدرك الأسفل من النار!.
لقد عانى المجتمع منذ الأزل -ولا يزال يعاني- من هذه المظاهر الخادعة، ومن هذه الوجوه المقنّعة بسمات التديّن.. تلك الوجوه التي خدعت الناس تارة لتستولي على ثقتهم واحترامهم وبالتالي الوصول إلى أموالهم، وتارة إلى تحقيق مكانة جماهيرية مؤثرة؛ توصلهم إلى مآرب وأهداف متعددة، بوسائل غير مشروعة اجتماعياً وربما دينياً..
ولعله من الواجب أن نستشعر وبقناعة تامة أننا جميعاً «مجتمع متدين» ما دمنا نلتزم بالعقيدة والشريعة الإسلامية، ولا نختلف معها أو نخالفها، لأنها في نظرنا ثوابت لا يمكن المساس بها، ولكن الاختلاف هو في سلوك التطبيق، ودوافعه، وخلط الدين بالتدين، إلى درجة أننا أصبحنا نحكم على الالتزام الديني وفق المعايير الشكلية المظهرية السائدة، دون أن نمعن النظر في حال «المضغة» التي إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد، أو أن نمنح فرصة لعقولنا لفرز «الصالح من الطالح»، وأن لا نؤخذ في ذلك على حين غرة من حيث لا ندري عبر إجلال تلك الصورة الشكلية للمتدين، والتي استغلها ضعاف النفوس وأساءوا من خلالها لإخوانهم أصحاب الفضل والطاعة والزهد والورع ممن هم يمثلون الشريحة الغالبة من أبناء مجتمعنا المسلم.
لقد أدت لغة الانغلاق، وفكره المتحجر، ولغة الجهل السائدة بسماحة الدين في فترة من الفترات إلى تكريس وتعزيز الصورة الذهنية عن التديّن، وحصره فقط في الجانب الشكلي، رغم ما يختبئ خلفها من خيانة لهذا المظهر الملتزم عند من لم يرعَ مخافة الله، حتى إن هذه اللغة المنغلقة في بعض المواقف قد حقّرت من لم يكن مستجمعاً هذه الصورة الشكلية في شخصيته واعتبرها البعض كبيرة من الكبائر، وذلك حينما وقف الخطيب داعياً من على المنبر في آخر خطبته قائلاً «اللهم قنا الزنا والزلازل والمحن – وحلق اللحى – وسوء الفواحش ما ظهر منها وما بطن ..»، هكذا وبكل بساطة ومن على المنبر صار حلق اللحى في مصاف الزنا وسيئ الفواحش الظاهر منها والباطن!!.
والنصوص الشرعية المتضافرة تؤكد على أهمية المفاهيم المعنوية في تمثّل التدين وتطبيق حقيقته؛ ومن ذلك أن القلب هو معيار صلاح بقية أعضاء المرء وجوارحه، وأن قول القلب وعمله في الإيمان كعمل الجوارح، وأن المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن مَن أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، والمهاجر مَن هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد مَن جاهد نفسه في طاعة الله.
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة كثيرة العبادة لكنها تؤذي جيرانها بلسانها أخبر أنها في النار، وحينما سئل عن المرأة قليلة العبادة وتحسن إلى جيرانها أخبر أنها في الجنة. ولعل ذلك راجع -والله أعلم- إلى طبيعة هذا الدين – خاصة في جانب تطبيقاته السلوكية – من حيث إنه قد جاء لسعادة الناس وتحقيق السلام لهم بتلازم الإيمان بالأمن، إضافة إلى أن لتطبيق القيم والمضامين الفاضلة نفعاً متعدياً يعين على تبليغ الدين نفسه وتعميقه في النفوس. والنصوص الشرعية الشاهدة على هذا كثيرة.