إكس خبر- في كانون الثاني (يناير) الماضي، قلّل الرئيس الأميركي باراك أوباما من شأن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). كان رأيه أن «داعش» أقل شأناً من «القاعدة». هذا ما قاله أوباما في حديث مطول له مع مجلة «نيويوركر» في 27 كانون الثاني الماضي. بعد خمسة أشهر، صار هناك ما يشبه الإجماع في الولايات المتحدة على أن هذا التنظيم هو أخطر ما يتهدد الأمن الأميركي. توحي هذه النتيجة بأن سياسة أوباما رهينة للأحداث أكثر من قدرتها على التأثير في مسارها. في البداية سحب كامل قواته من العراق. الآن يقاوم إمكان إجباره على إعادتها إليه. مقاتلاته عادت بالفعل الى أجواء العراق. ترك مأساة سورية لأقدارها خوفاً من المتطرفين الإسلاميين، فإذا بـ «داعش» – أكثر التنظيمات تطرفاً – يلغي الحدود بين العراق وسورية، ويضع حجر أساس دولته على أراض واسعة في هاتين الدولتين. بعد تلقيه ضربات سلاح الجو الأميركي، قام «داعش» بنحر الصحافي الأميركي جيمس فولي بطريقة بربرية. يقف أوباما الآن أمام مفترق طرق صعب، وهو يشاهد تداعيات سياسات إدارته تجاه المنطقة منذ 2011، والأثر الذي يمكن أن تتركه على إرثه السياسي بعد مغادرة البيت الأبيض.
يبدو أن قيادة «داعش» قرأت رسالة الرئيس الأميركي في كانون الثاني بطريقتها. أوباما لا يقلّل من شأن تنظيمها. إنه يقلّل من شأن ما يحدث في سورية وتأثيره في العراق. بالنسبة الى «داعش»، لا تبدو واشنطن مرهقة من الحروب وحسب، بل يحكمها رئيس سلّم سلفاً بأنه لا شأن له بمعادلة الصراع الذي يدور في الشام. ليس من المستبعد أبداً أن هذه القيادة قرأت أحاديث أوباما عن الموضوع بعناية، وبين هذه القيادة من يتقن اللغة الإنكليزية بحرفية واضحة، كما يتضح من الخطاب الإعلامي للتنظيم. من بين هذه الأحاديث حديثان مطولان لأوباما: أحدهما لمجلة «نيويوركر» المشار إليه، والآخر لموقع «بلومبرغ» بتاريخ 27 شباط (فبراير) من العام نفسه. في كليهما قدم الرئيس أوباما مرافعة مفصلة عن موقفه من سورية، فحواها أن من يعتقد أن تسليح المعارضة السورية كان سيغيّر من الأمر شيئاً هناك واهم. لماذا؟ أولاً لأن المعارضة السورية ما هي إلا خليط من الفلاحين والنجارين والمهندسين والصيادلة والأكاديميين وسواهم ممن تحولوا فجأة إلى معارضين للنظام. هذه المعارضة، كما يقول، غير منظمة، وفقيرة في تجهيزها وفي تدريبها. ثانياً أن النظام السوري يملك جيشاً قوياً، ويحظى بدعم إيران وروسيا، وهو دعم تعتبره كل منهما استراتيجياً بالنسبة اليها. ومؤدى ذلك أن تسليح هذه المعارضة لن يكون بحد ذاته كافياً لقلب المعادلة، بل يتطلب تدخلاً أميركياً. وأوباما ليس مستعداً لذلك، لأنه لا يعتبر أن دعم الثورة السورية أمر استراتيجي لأميركا، كما هو دعم النظام بالنسبة الى الروس والإيرانيين. اكتفى أوباما بنجاحه في إرغام الرئيس السوري على تسليم ترسانة سلاحه الكيماوي.
ما الذي استنتجه «داعش» من ذلك؟ أولاً أن الأميركيين رفعوا أيديهم عسكرياً من الصراع في سورية، ولن يتدخلوا فيه تحت أي ظرف. ثانياً أنه في وسع أي طرف في المعارضة أن يغيّر المعادلة على الأرض هناك إذا كان باستطاعته تحقيق ذلك. وهنا اختار «داعش» توجيه ضربته إلى النقطة الأضعف، العراق. ونتذكر أن العراق صار الأضعف (بعد أن كان الأقوى)، لأن الأميركيين بعد احتلالهم له حلّوا جيشه، ودمروا دولته، وسمحوا مكان ذلك بنمو النفوذ الإيراني، وبتأسيس نظام سياسي يقوم على المحاصصة الطائفية. في ظل هذا الوضع حقق تنظيم «الدولة الإسلامية» أكبر إنجازاته، وصار أكبر خطر يهدد الولايات المتحدة. أقر أوباما أخيراً بذلك متراجعاً عن فرضية المبالغة. وهو إقرار يؤكد علاقة الأحداث في كل من سورية والعراق. هل يشمل هذا الإقرار وجود علاقة بين تجاهل أوباما للثورة السورية وانفجار أزمة «داعش» أمامه في العراق؟ ليس بعد. وزيرة خارجية أوباما السابقة هيلاري كلينتون قالت الأسبوع الماضي في لقاء مطول أيضاً في مجلة «آتلانتيك» إن الفشل في مساعدة الثوار السوريين أدى إلى ظهور «داعش» في العراق. ثم تكاثرت الأصوات في واشنطن بأنه لا يمكن القضاء على «داعش» في العراق، من دون ضربه في سورية أيضاً. أحد هؤلاء رئيس أركان الجيوش الأميركية مارتن ديمبسي.
إن «داعش» يشكل خطراً داهماً، صحيح. لكن الأخطر من ذلك اختزال الأزمة في هذا التنظيم. هو اختزال يعكس رؤية انفعالية أو انتهازية، وكلتاهما تنطوي على كارثة تتهدد الجميع. «داعش» نتيجة، وليس سبباً. لنتذكر أن العمر الزمني لهذا التنظيم لا يتجاوز ثماني سنوات، وأن سياسة أوباما كانت أحد العوامل التي سهّلت نجاحاته الأخيرة. هو طرف واحد في ظاهرة إرهاب تضرب المنطقة، وتتغذى من طائفية متجذرة في ثقافتها. وبما أن الطائفية حال اجتماعية سياسية، فهي تشمل أطرافاً كثيرة. أبرز وأخطر المواجهات في هذه الحال الطائفية في العراق وسورية بين السنّة والشيعة. وعلى خلفية ذلك ظهرت تنظيمات إرهابية كثيرة بعضها سنّي، وبعضها الآخر شيعي. إلى جانب «داعش»، و»جبهة النصرة»، و»جيش المجاهدين» مثلاً على الجانب السنّي، هناك «عصائب الحق»، و»فيلق بدر»، و»كتائب الفضل بن عباس» على سبيل المثال أيضاً في الجانب الشيعي. أصبحت هذه الميليشيات عابرة للدول. ومثلما أن «داعش» يقاتل في العراق وسورية، كذلك تفعل «عصائب الحق»، و»حزب الله» اللبناني. تنامي هذه الميليشيات عدداً وقوة وتوسع دورها أضعف بعض الدول، بل جعل منها أقرب إلى الدول الفاشلة، كما في العراق وسورية. الحوثيون يقومون بالدور نفسه في اليمن.
من هنا فإن اختزال ظاهرة الإرهاب في «داعش» واستهدافه وحده، أو مثيلاته على الجانب السنّي، عدا عن أنه يبتسر الظاهرة، سيعتبر حرباً غربية ضد السنّة، واصطفافاً مذهبياً آخر. وهذه سياسة رعناء ستقوي القاعدة الشعبية لـ «داعش» وأخواته، وستزيد من إضعاف الدول، وبالتالي ستفاقم من خطورة الأزمة، بدلاً من وضع حلول لها. لا يقل خطورة في هذا السياق اقتراح البعض بإشراك إيران في مواجهة «داعش». إيران طرف مباشر في الحرب الطائفية التي تعصف بالمنطقة، لأنها تتبنى وتمول وتدرب كل الميليشيات الشيعية في العراق وسورية ولبنان واليمن، وتوفر لها الغطاء السياسي. إشراكها في مواجهة «داعش» هو عملياً إقرار بمشروعية دعمها للطائفية والإرهاب، وتوفير غطاء دولي لها لتصفية خصومها من الميليشيات السنّية. المطلوب بدلاً من ذلك، وبإلحاح الآن، إعلان موقف دولي واضح وحازم ضد الطائفية بكل أشكالها، وسياسة طويلة النفس تستهدف وضع حد لكل الميليشيات بكل انتماءاتها المذهبية، وتجفيف كل مصادر الدعم لها، الرسمي منها وغير الرسمي.
لا يقل خطورة في السياق نفسه اقتراح البعض التعاون مع نظام الأسد لمواجهة «داعش». أبرز من يقول بهذا السفير الأميركي السابق لدى العراق رايان كروكر. وهو اقتراح أحمق يجهل حقيقة أنه بقدر ما أن ظاهرة «داعش» بدمويتها المتوحشة هي نتاج طبيعي للثقافة السياسية التي رسخها نظام البعث السابق في العراق، هي أيضاً نتاج للبيئة السياسية التي أفرزتها دموية وتوحش نظام الأسد الذي يحكم سورية قبل أن تولد ظاهرة الإرهاب والميليشيات بأكثر من أربعة عقود، وهو اقتراح أحمق لأنه يتجاهل العلاقة العضوية للحال الطائفية في العراق بالحال نفسها في سورية، وأنها المحرك الرئيس للأحداث في كليهما. مواجهة «داعش» تعني مواجهة للإرهاب، ومواجهة الإرهاب تقتضي بالضرورة مواجهة الطائفية. ونظام الأسد هو أبرز قلاع الطائفية في المنطقة الآن، وليس أدل على ذلك من أن بقاءه يستند بشكل أساسي على دعم ميليشيات طائفية أهمها «حزب الله» اللبناني، و»عصائب الحق» العراقية، وكلاهما برعاية ودعم إيرانيين.
السؤال الآن ليس: هل يجب القضاء على «داعش»؟ الأهم: كيف؟ وماذا بعد ذلك؟ «داعش» جزء من نمط سياسي مدمر تاريخه لا يزال معنا. في ثمانينات القرن الماضي دشّن «حزب الله» اللبناني التفجيرات الانتحارية. وفي التسعينات ظهر تنظيم «القاعدة»، وأخذ أعمال العنف إلى أعلى درجاتها آنذاك، بتفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ووزارة الدفاع في واشنطن. مع بداية العقد الثاني من الألفية الثانية تحوّل «حزب الله» إلى قوة إقليمية تحارب خارج حدودها، وانفصل «داعش» عن «القاعدة»، وبدأ تأسيس دولته آخذاً الجريمة السياسية إلى مرحلة التوحش. هذا مسار تصاعدي يهدّد مفهوم الدولة من أساسه. وجود ميليشيات «داعش» و»حزب الله» وغيرهما في مسرح الأحداث في كل من العراق وسورية، وأن إيران هي القاسم المشترك في هذا المسرح، يعني أن الوضع في العراق وسورية ينتظمه سياق سياسي وأيديولوجي واحد، وأن اختزاله في مكون واحد من دون غيره خطأ سياسي فادح، لن يزيد الوضع إلا قتامة وسوءاً على الجميع.