عارف عبدالبصير – الجزيرة: كوكايين الممانعة قصة حزب الله وكارتيلات المخدرات العالمية
تقديم
تتوغل هذه المادة في عالم شبكات حزب الله المالية العالمية المعقدة والغامضة، وهو عالم لم ينل حظا من التغطية الصحافية العربية المتعمقة، وتحاول المادة ترتيب هذه الشبكات وفاعليها وأذرعها الممتدة في كل قارات العالم في قصة صحافية، بداية منذ لحظات التكون وحتى وصول تلك الشبكات إلى مرحلة كبرى من الفاعلية، جاعلة من “حزب الله” إحدى أكثر المنظمات غير الحكومية “استقلالية مالية” وقوة على وجه الأرض.
نص التقرير
على الجانب البرازيلي من جسر الصداقة الحديدي المتهالك الواصل بين البرازيل وباراغواي، تتكدس السيارات والشاحنات، ويتزاحم البشر الراغبون في العبور إلى الجانب الآخر من الجسر المار فوق نهر بارانا، الحاجز الطبيعي الفاصل بين البلدين، في مشهد يومي معتاد، ورغم أن الجسر القديم يمثل معبرا حدوديا يفصل بين دولتين، تبدو(1) إجراءات العبور أسهل من المعتاد، فلا حاجة لأحد هنا إلى الحصول على تأشيرة دخول، وبخلاف ذلك، فإن عمليات التفتيش روتينية إلى حد كبير، حيث يُفحص محتوى الشاحنات الكبرى سريعا في حين يُسمح لسائر المركبات الأخرى وللمشاة بالمرور دون تدقيق كبير في الوثائق.
يبدو هذا التساهل في الإجراءات غريبا بالنسبة إلى حاجز حدودي يقع في منطقة تُعرف(2) على أنها إحدى أكثر المناطق التي تغيب عنها سلطة الدولة على وجه الأرض، ولكن الجميع هنا يعلم فيما يبدو أن أكثر عمليات التهريب خطورة تجري أسفل الجسر وليس أعلاه، وغالبا ما تتم في صمت الليل الذي يشقه صوت محركات القوارب، وأحيانا أصوات طلقات المهربين التي تواطأ الجميع على مدار سنوات على تجاهلها.
على الخرائط الصماء، تُعرف هذه المنطقة باسم منطقة الحدود الثلاثية، وهي نقطة تجمع حدود ثلاث مدن من ثلاث دول مختلفة، أولها مدينة “فوز دو إيغواسو” الواقعة جنوب غرب البرازيل، وهي واحدة من مناطق الجذب السياحي الرئيسة في أميركا الجنوبية بسبب استضافتها لشلالات إجوازو البديعة، وثانيها مدينة “بورتيرو جواسيو” شمال الأرجنتين التي يشق سكونها هي الأخرى هدير الشلالات الغزيرة، وأخيرا مدينة الشرق في باراغواي، وهي السوق التجاري الرئيس الذي يتدفق إليه الجميع في المنطقة، حيث يمكنك شراء هاتف خليوي حديث أو كاميرا احترافية بنصف ثمنها في سائر مدن البرازيل.
لكن وجوه البشر في مدينة الشرق لا تبدو جميعها منسجمة مع الملامح التقليدية لللاتينيين، فبقليل من التفحص يطالعك مزيج غير متجانس من الأوجه اللاتينية والأوروبية والعربية، فيما يمكن بسهولة لمن يسترق السمع وسط الزحام قليلا أن يلحظ بوضوح أن اللغة العربية شائعة بشكل ملحوظ، وهي الأكثر استخداما بعد الإسبانية والبرتغالية، حيث تعتبر مدينة الشرق موطنا للعديد من العرب من مصر وسوريا وحتى فلسطين، لكنّ اللبنانيين هم الأكثر حضورا بوضوح، وبوجه خاص، أولئك الشباب العشرينيون المنحدرون من الجنوب اللبناني.
وصل المهاجرون اللبنانيون الأوائل إلى المنطقة أواخر القرن التاسع عشر، وتبعتهم جحافل أخرى خلال الحرب العالمية الأولى، ولكن موجة الهجرة الأخيرة، والأهم، وقعت مع الحرب الأهلية اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وهي التي حملت معظم المهاجرين اللبنانيين إلى المنطقة، حيث استقروا بصحبة عائلاتهم وشرعوا في تأسيس أعمالهم الخاصة مستفيدين من المكانة التجارية البارزة لمدينة الشرق.
أحد هؤلاء المهاجرين هو “أسعد بركات”، الذي قدم إلى المدينة في التسعينيات وافتتح متجرا خاصا لبيع الإلكترونيات بالجملة، قبل أن يُقبض عليه عام 2002 بتهم تتعلق بالتهرب الضريبي، حيث قضى حكما بالسجن لمدة ست سنوات ونصف، وهي تهمة تُعدّ شائعة بالمدينة اللاتينية بشكل كبير، ولكن الصدمة الحقيقية وقعت حين قامت وزارة الخزانة الأميركية بوضعه على قائمة العقوبات عام 2004 واصفة إياه بأنه “الذراع الأيمن لحسن نصر الله في أميركا الجنوبية”، ومتهمة إياه بإدارة شبكة سرية لجمع الأموال لصالح حزب الله عبر تهريب المخدرات والسلع المقرصنة.
كان بركات مجرد حلقة أولى في شبكة حزب الله المزعومة، ففي عام 2008 أُلقي القبض على “نمر زعيتر” بتهمة محاولة تهريب الكوكايين للولايات المتحدة، وفي وقت لاحق عام 2013 قُبض على شقيق أسعد بركات، “حمزة علي بركات”، بتهمة تأسيس شبكة احتيال وتهريب بصحبة مجموعة من المهربين اللبنانيين في منطقة الحدود الثلاثية، وفي منتصف العام الحالي 2018، اعتُقل(3) شخص آخر من العائلة هو “محمود علي بركات” بتهمة تبييض الأموال لصالح الحزب.
أثارت تلك الوقائع ومثيلاتها حالة من الجدل حول طبيعة العلاقة الناشئة بين حزب الله وشبكات الجريمة المنظمة في أميركا الجنوبية في عصر ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، علاقة هدفت في المقام الأول إلى كسب المال من كل شيء، بداية من البضائع المزيفة مثل الساعات ونظارات الشمس والإلكترونيات المقلدة وأقراص الدي في دي المقرصنة، مرورا بتجارة السجائر وتهريب البشر، وانتهاء بعمليات غسيل الأموال وتجارة المخدرات، بهدف إيجاد موارد دخل إضافية لمواجهة الأزمات المالية المتلاحقة التي ضربت صفوف الفاعل غير الحكومي المسلح الأبرز في الشرق الأوسط، ووضعته أمام تحديات غير مسبوقة لفاعليته، خاصة مع الاستنزاف المتواصل لموارد الحزب عبر قرابة سبع سنوات من الحرب في سوريا.
إيران.. الملاذ الأول
بدأت هياكل “حزب الله” في الظهور للمرة الأولى في الجنوب اللبناني أوائل الثمانينيات مستندة إلى القاعدة الشعبية لرجل الدين الشيعي “محمد حسين فضل الله”، قبل سنوات قليلة من تأسيس الحزب بشكل رسمي عام 1985، كتنظيم سياسي إسلامي شيعي مرتبط أيديولوجيًّا بنظام “الثورة الإسلامية” الإيرانية، وملتزم مذهبيا بولاية الفقيه، وفي الوقت نفسه كحركة مقاومة دينية ضد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني الذي وقع عام 1982، وألقى بظلاله على توجهات الحزب منذ ظهوره.
أسهم التزام الحزب المعلن تجاه ولاية الفقيه وولعه بـ “الثورة الإسلامية” في ربطه بطهران منذ البداية، وهي رابطة لم يجتهد أي من الطرفين في إخفائها على كل حال، ما دفع إلى هيمنة الاعتقاد الشائع بأن حزب الله كان بالأساس أحد المشروعات الإيرانية الهادفة إلى بسط هيمنتها على المسلمين الشيعة في المنطقة، ومناوشة إسرائيل من أحد المواقع القريبة بحكم احتلالها لجنوب لبنان، لذا لم يكن مستغربا أن تكون طهران هي من دربت(4) الطليعة الأولى لمقاتلي الحزب عبر كتائب الحرس الثوري التي تدفقت إلى لبنان بتنسيق مع الحكومة السورية المسيطرة على البلاد آنذاك.
ولكن من وجه آخر، يمكن اعتبار ظهور حزب الله، والتنظيمات السياسية الشيعية بشكل عام، رد فعل سياسي واجتماعي على التاريخ الطويل من التهميش(5) الذي عاناه الشيعة في النظام السياسي اللبناني منذ استقلال البلاد منتصف الأربعينيات، حيث عاش أغلبهم في المراتب الدنيا من السلم الاجتماعي، مع فرص متدنية في التعليم والوظائف، وإقصاء كامل من النظام السياسي الذي أنشأته فرنسا وهيمنت عليه النخب المسيحية، وقد ألقى ذلك بدوره على المجتمعات الشيعية التي انزوت إلى الهامش المجتمعي وفشلت بالتبعية في تحقيق استقلالها الاقتصادي.
في ضوء ذلك، كان الدعم الإيراني بالمال والعتاد أمرا حاسما لحزب الله وقت تأسيسه، ففي الوقت الذي امتلك فيه الحزب القاعدة الشعبية الضرورية التي وفرتها له جموع الشيعة المتدينين المهمشين، واليائسين بفعل الحرب الأهلية طويلة الأمد، كان الحزب يفتقر إلى أدنى مقومات الاستقلال المالي، وهو ما دفعه إلى الاعتماد على الأموال الإيرانية في تشغيل هياكله الإدارية، وتفعيل شبكته الخدمية التي أسسها بهدف بناء قاعدة جماهيرية أكبر بين الشيعة اللبنانيين، وحتى في تمويل عملياته العسكرية ضد الإسرائيليين والأميركيين.
كانت إيران حاضرة دوما على الوجه الأمثل للحضور، حيث تشير التقديرات إلى أن طهران قدمت(6) مساهمة ثابتة لا تقل عن 100 مليون دولار سنويا لحزب الله منذ نشأته، زادت خلال التسعينيات لتصل إلى 200 مليون دولار، ثم إلى 300 مليون دولار منتصف العقد الماضي مدعومة بارتفاع أسعار النفط، إلا أن طهران اضطرت عام 2009 لتخفيض دعمها للحزب بمقدار 40% بفعل انخفاض أسعار النفط والعقوبات الاقتصادية التي أثقلت كاهل الاقتصاد الإيراني، ولكنها عادت ورفعت ميزانية الحزب من جديد خلال عامي 2012 و2013، حيث قدرت(7) وكالة رويترز ميزانية حزب الله عام 2013 بين 800 مليون إلى مليار دولار، تأتي نسبة 70-90% منها من إيران، وذاته عام 2013 شهد عودة العقوبات الدولية تجاه إيران، لتتجه طهران نحو تخفيض جديد في الدعم عام 2015 بفعل تلك العقوبات.
خلاف ذلك، لا يأتي الدعم الإيراني لحزب الله بشكل مباشر من الدولة، ولكن يُقدَّم بدلا من ذلك عبر(8) شبكة الاقتصاد غير الرسمي في إيران، المعروفة باسم “البونياد”، والمسيطرة على 20% من الاقتصاد الإيراني وفق بعض التقديرات، وهي شبكة تضم سلسلة من الكيانات والمؤسسات والجمعيات الخيرية التي يسيطر عليها المرشد الأعلى الإيراني وكبار رجال الدين. على سبيل المثال، قامت مؤسسة الإمام الرضا، إحدى أشهر الجمعيات التابعة لرجال الدين بإيران، بمنح “حزب الله” قرابة 180 مليون دولار لإعادة بناء المنازل التي دُمّرت خلال غزو عام 2006 الإسرائيلي، كما لا يتم تمرير هذا الدعم من خلال البنوك والنظم المصرفية الرسمية، وغالبا ما يُنقل عبر الطائرات إلى سوريا وتهريبه لاحقا عبر الحدود إلى لبنان.
ولكن الدعم الإيراني لحزب الله لا يقتصر على الدعم المالي فحسب، بل يمتد لأبعد من ذلك نحو الدعم العسكري المباشر، حيث يُدرّب العديد من مقاتلي حزب الله في إيران، كما يتلقى الحزب تدريبات إيرانية تبدأ من حروب العصابات، مرورا بتطوير الصواريخ وإطلاقها والحروب البحرية، ووصولا إلى تشغيل الطائرات بدون طيار، كما تقوم إيران بتوريد الأسلحة للحزب اللبناني بشكل مباشر بما يشمل البنية التحتية الرئيسة لترسانة صواريخ الحزب التي يُقدّر عددها اليوم بـ 120 ألف صاروخ، وبعض الأسلحة المدفعية وحتى الطائرات بدون طيار، حيث زعمت إسرائيل عام 2012 أنها قامت بإسقاط طائرة بدون طيار ألمانية الصنع مملوكة لحزب الله، وزعمت أيضا أنه تم شراؤها من قِبل الحرس الثوري قبل توريدها إلى الحزب.
ورغم التزام “آيات الله” عبر الحدود تجاه الحزب، كانت احتياجات الحزب المالية تنمو باضطراد على مر السنين مدفوعة بانخراطه السياسي المتزايد وكذا الحروب والمغامرات الإقليمية التي خاضها نيابة عن طهران حينا وبجوارها حينا آخر، وهو ما جعل إيران غير قادرة على الوفاء بشكل دائم بالمتطلبات المتزايدة له، خاصة مع تنامي الأزمة الاقتصادية الداخلية الناجمة عن العقوبات الغربية ضدها، والتي تزامنت في بعض الأحيان مع التقلص الطبيعي للإيرادات الإيرانية بفعل انخفاض أسعار النفط، وهو ما دفع الحزب إلى البحث عن مصادر مُكمّلة للدخل ودعم فاتورة نفقاته المتزايدة باضطراد غير مسبوق.
عبر الحدود
منذ نشأته، كانت مسألة التمويل نقطة الضعف الأكثر خطورة في جسد حزب الله، فرغم الالتزام الكامل من قِبل إيران نحوه، فإن مكانتها المهتزة في النظام الدولي وخطوط التمويل المباشرة عبر سوريا وضعت الحزب دوما تحت رحمة الاضطرابات السياسية في إيران وسوريا، ولم تكن ضريبة “الخمس” التي يجمعها رجال الدين من الشيعة اللبنانيين الفقراء كافية لسد العجز المالي، ومواجهة أزمات التمويل المتتالية التي واجهها الحزب عاما بعد عام.
وقعت أبرز تلك الأزمات عام 2006، حيث كان حزب الله خارجا للتو من حربه الشهيرة ضد إسرائيل، ورغم أن الحرب منحت الحزب الكثير من النفوذ السياسي داخل لبنان، والكثير من الرصيد المعنوي والشعبي خارجه، فإن الحرب تسببت في نشوب خلاف(9) بين حزب الله والحكومة حول ملف إعادة إعمار الضاحية الجنوبية المتضررة بفعلها، حيث وجد الحزب نفسه نهاية المطاف محملا بمفرده بحصة كبيرة من تركة إعادة البناء.
تزامنا مع ذلك، وبحلول نهاية العام نفسه، كانت الخلافات تحتدم بين إيران والمجتمع الدولي حول برنامج طهران النووي والصاروخي، وصولا إلى فرض الأمم المتحدة عام 2007 عقوبات على البنك المركزي الإيراني و28 مؤسسة أخرى بعضها تابع للحرس الثوري الإيراني، مما وضع ضغوطا إضافية على قدرات إيران المالية، التي لم يكن سخاؤها كافيا لسد التزامات الحزب، الذي أدرك قبل ذلك بفترة زمنية كافية كما ذكرنا حتمية البحث عن مصادر مالية مُكمّلة أو بديلة.
أُسنِدت(10) تلك المهمة إلى “عماد مغنية”، رجل المهام الصعبة في الحزب، وقائده العسكري الأبرز الذي تتهمه الولايات المتحدة بالتورط في قتل أكبر عدد من الأميركيين في جميع أنحاء العالم قبل أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وهو الرجل الذي رجحت واشنطن تورطه في تنفيذ تفجير السفارة الأميركية في بيروت بلبنان عام 1983، والذي أسفر عن مقتل 63 شخصا، واشتبهت في قيامه بتفجير شاحنة تابعة لمشاة البحرية الأميركية في بيروت أيضا مما أدى إلى مقتل 241 شخصا، كما ألقت(11) باللوم عليه في واقعة اختطاف طائرة “تي دبليو إيه 847” التي كانت في طريقها من أثينا اليونانية إلى روما الإيطالية لمدة أسبوعين، ويعتقد أن أنشطة “مغنية” هي التي قادت إلى انسحاب قوات حفظ السلام الأميركية من لبنان في نهاية المطاف.
على الفور، شرع “مغنية” في وضع اللبنات الأولى لتأسيس وحدة شؤون مالية تابعة للجناح العسكري لحزب الله، صانعا ما وصفته واشنطن لاحقا بأنه “تحالف غير مسبوق بين جماعات مسلحة أيديولوجية إقليمية وبين الشبكات العالمية لتجارة المخدرات والجريمة المنظمة”، تحالف أسهم في تدفق مئات الملايين من الدولارات إلى خزائن الحزب، منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول إلى اليوم، عبر منظومة من العمليات التجارية الشرعية وغير الشرعية تبدأ من تجارة السيارات المستعملة مرورا بالسجائر والأجهزة والمنتجات المقلدة ووصولا إلى تهريب المخدرات والأسلحة وعمليات تبييض الأعمال العابرة للحدود.
كان الأساس النظري وراء شبكات “مغنية” بسيطا للغاية، وشديد الشبه بنظام الدعم الأكثر فاعلية الذي شيّدته الاستخبارات الإسرائيلية لتسهيل القيام بمهامها حول العالم، فرغم أن الموساد يُصنّف(12) هيكليا كأحد أصغر أجهزة المخابرات حول العالم، فإن شبكة الدعم الخاصة، المعروفة باسم “السيانيم”، تُعدّ أكبر الشبكات العالمية وأكثرها فاعلية، حيث يعتمد “السيانيم” ببساطة على توظيف المجتمع اليهودي العالمي كشبكة دعم استخباراتي مكونة من عشرات الآلاف من العملاء المحتملين، والذين يتم تجنيدهم وقت الحاجة، وتتشابه لبنان مع إسرائيل بشكل كبير من حيث امتلاك البلاد لإحدى أكبر قواعد المهاجرين حول العالم، حيث يتوزع(13) قرابة 11-13 مليون شخص من ذوي الأصول اللبنانيةة بين القارات المختلفة، من الولايات المتحدة إلى أميركا اللاتينية والكاريبي وأستراليا، ومن شرق آسياا إلى غرب أفريقيا، وهو مجتمع ضخم للغاية خاصة بالمقارنة مع عدد اللبنانيين في الداخل الذي يبلغ بالكاد 4 ملايين شخص.
الشبكات اللبنانية
بدأت موجات الهجرة من لبنان منذ أواخر القرن التاسع عشر، حيث تدفق اللبنانيون إلى البلدان المضيفة حاملين جوازات سفر عثمانية، ولاحقا سورية قبيل استقلال البلاد، وكان معظم المهاجرين خلال تلك الموجة من المسيحيين الذين تدفقت أموالهم من البلدان المضيفة إلى أسرهم في لبنان، مما شجع تدفقات المهاجرين التي استمرت حتى استقلال البلاد منتصف القرن التاسع عشر.
لاحقا، تسببت الحرب الأهلية اللبنانية منتصف السبعينيات واحتلال إسرائيل لجنوب لبنان مطلع الثمانينيات في موجة جديدة من النزوح، وتشير التقديرات إلى أن نحو مليون لبناني غادروا بلادهم بين عامي 1975 و1990، بنسبة تصل إلى 40% من سكان البلاد آنذاك، بيد أن تلك الموجة الجديدة من الهجرة صبغت ببعض الاتجاهات الجديدة التي ميزتها عن سالفتها، حيث كان النزوح في تلك المرة أسري الطابع (كانت العائلات تهاجر تباعا بهدف لمّ شملها في الخارج)، كما كانت الهجرة متعددة الطوائف مع حضور كبير فيها للشيعة الذين رأوا أنفسهم المتضرر الأكبر من الحرب الأهلية في البلاد.
في بلدانهم الأصلية، كان اللبنانيون عادة رجال أعمال ناجحين للغاية -على اختلاف مستويات أعمالهم- بسبب خبرتهم الطويلة التي تعود لقرون كتجار، ولكنهم واجهوا(14) في الوقت نفسه صعوبات كبيرة في الاندماج في أوطانهم الجديدة، وغالبا ما احتفظوا بهوياتهم المميزة ليعزز ذلك من حرصهم على الحفاظ على روابط ثقافية قوية مع بلادهم، حيث انتظموا في مصفوفات أسرية وعائلية متصلة مع عشائرهم الأصلية في لبنان، وأنشأوا تكتلات اقتصادية عائلية لحماية تلك الروابط واستقدام المزيد من أفراد أسرهم، وإرسال المساعدات والأموال إلى أهاليهم في البلاد.
سهّل نظام “الزعامة” المتجذر في الثقافة اللبنانية من مهمة الحفاظ على الروابط بين المهاجرين وبين عشائرهم الأصلية في الداخل اللبناني، وهو نظام للمحسوبية السياسية تحكمت بموجبه العائلات بشكل تاريخي في النظام السياسي اللبناني، وتوارثت الزعامات السياسية واقتسمت رعايات القوى الأجنبية، ومع هيمنة ثقافة العائلة والعشيرة على اللبنانيين فإن تلك الثقافة انتقلت بالتبعية إلى مجتمعات اللبنانيين في المهجر.
وأدى اتحاد الشيعة اللبنانيين للمرة الأولى في تاريخهم في كيانات منظمة قبيل نهاية الحرب الأهلية إلى ظهور نسخة جديدة من نظام الزعامة في المجتمعات الشيعية، حيث تصارع التكتلان الرئيسان في المجتمع الشيعي اللبناني، “حزب الله” و”حركة أمل”، على رعاية مصالح الشيعة اللبنانيين، واستفاد “حزب الله” في نهاية المطاف من تراجع “حركة أمل” أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان ليرسخ نفسه بوصفه الراعي الأبرز للمجتمعات الشيعية، خاصة مع ظهور قادة ذوي قبول شعبي عالٍ، مثل موسى الصدر، لينجحوا في اكتساب شرعية كبيرة بين زعامات مجتمعات المهجر.
عمل نظام الزعامة في لبنان في نسخته الجديدة كرأس حربة(15) لجهود مغنية ورفاقه لاختراق المجتمعات اللبنانية المهاجرة، حيث خطط حزب الله لتحويل هذا الدعم من المهاجرين إلى مورد للمال، مستخدما الزعامات اللبنانية لخلق علاقات بين المهاجرين الأثرياء وبين المنظمة لضمان تدفق الأموال له، سواء عبر الروابط الشخصية أو من خلال الهياكل المؤسسية.
فمن ناحية، يفرض نظام الزعامة على المهاجرين بعض المسؤوليات المالية لصالح عشائرهم، تتضمن توجيه المال لصالح المنظمات التي تقوم بمساعدة أقاربهم في البلاد، وقد جعلت عقيدة حزب الله الدينية وسمعته كمؤسسة غير فاسدة مكانا مرشحا لتلقي الكثير من الدعم، حيث أنشأ الحزب مؤسسات صناديق تجمع الزكوات من المهاجرين لصالح المؤسسات التي تخدم الشيعة اللبنانيين، وفي الوقت الذي تُمثِّل فيه تحويلات المهاجرين 20% من الناتج المحلي الإجمالي في لبنان، عمل الحزب ومؤسساته مثل بيت المال كجهات موثوقة لنقل تلك التحويلات إلى العائلات، ما أقحمه في قلب النظام الاجتماعي والمالي الذي يربط بين العائلات الشيعية في الداخل وبين المجتمعات المهاجرة، وأعطاه تدفقا مستمرا للعملة الصعبة.
ساعدت الشبكات اللوجيستية للحزب في تسهيل مخطط للاستخبارات الإيرانية لتنفيذ هجومين عام 1992 استهدفا السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس
مواقع التواصل
ولكن استفادة حزب الله من تلك الشبكة لم تتوقف على أموال التبرعات والرعايات وأنشطة الوساطة المالية فحسب، بل منحته وصولا كبيرا إلى مجتمعات الجريمة المنظمة خاصة في أميركا الجنوبية، وهي علاقة بدأت منذ الثمانينيات حيث أنشأ الحزب شبكات من العلاقات مع مهربي المخدرات والأسلحة ونشطاء غسيل الأموال، وهي شبكة وصلت إلى قدر كافٍ من الفاعلية خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
عالم “حزب الله”
نجحت شبكات حزب الله العابرة للحدود في لفت الأنظار(16) بوقت مبكر من التسعينيات خاصة في أميركا الجنوبية، موطن السواد الأعظم من مواطني الشتات اللبناني، ما جعلها المرشح الأبرز للعب دور المسرح الخارجي لأنشطة الحزب خارج الشرق الأوسط، وتحديدا مع البداية القوية والكاسحة مطلع التسعينيات حين ساعدت الشبكات اللوجيستية للحزب في تسهيل مخطط للاستخبارات الإيرانية لتنفيذ هجومين عام 1992 استهدفا السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس، وجمعية الصداقة اليهودية الأرجنتينية، وخلّفا أكثر من مئة قتيل وقرابة 600 مصاب.
وضعت هذه الهجمات المجتمعات اللبنانية في أميركا اللاتينية تحت الكثير من الضوء، واستدعت تحقيقات مطولة(17) لاستكشاف الروابط الشخصية والمؤسسية بين حزب الله وهذه المجتمعات، تحقيقات كشفت في نهاية المطاف عن نشوء روابط بين الحزب اللبناني وبين جماعات الجريمة المنظمة العاملة في القارة، حيث تم الكشف عن الكثير من تلك الروابط الشخصية في الأعوام التالية لـ 11 سبتمبر/أيلول، ولكن كان على الجميع أن ينتظروا حتى عام 2008 لاستشكاف الخيوط الأولى حول الروابط المؤسسية بين الحزب وشبكات الجريمة المنظمة.
في ذلك العام، قامت(18) قوات إنفاذ القانون في الولايات المتحدة وكولومبيا بشكل مفاجئ باعتقال قرابة 130 مشتبها بهم في عضوية خلية شُكِّلت من تحالف بين عصابة مخدرات كولومبية شهيرة تعرف باسم “وادي الشمال”، وبين تنظيم يساري مسلح مناهض يعرف باسم “القوات المسلحة الثورية الكولومبية”، وبين مجموعة من المهربين من ذوي الأصول اللبنانية. وكانت الولايات المتحدة وكولومبيا دشنتا قبل عامين تحقيقاتهما المشتركة، المعروفة باسم العملية “تيتان”، بهدف مطاردة شبكات تهريب المخدرات من كولومبيا إلى أميركا وأوروبا والشرق الأوسط، وغسل مئات الملايين من الدولارات من العائدات في شبكات مالية تمتد من بنما إلى هونغ كونغ، وسرعان ما قادت التحقيقات إلى مركز تلك الشبكة وعقلها المدبر وهو ناشط لبناني الأصل يُدعى “شكري حرب”، تبين أن شبكته تقوم بتوريد 12% من عائداتها نقدا وبشكل مباشر إلى حزب الله.
أثارت “خلية حرب” الكثير من الجدل حول حجم وعمق النشاط التجاري غير الشرعي للحزب في باحة أميركا الخلفية، ورغم أنها مثّلت أول دليل شبه رسمي على الروابط المؤسسية لأنشطة الحزب غير القانونية، لم تكن هناك أي إشارات حول ضلوع قيادات حزب الله بشكل مباشر في إدارة هذه الشبكة، قبل أن تقوم وزارة العدل الأميركية في العام التالي بتوجيه اتهامات مباشرة لعشرة منتمين إلى حزب الله على رأسهم “حسن حدرج”، عضو المجلس السياسي للحزب والمسؤول عن الشؤون الفلسطينية، بتهمة الاتجار في العملات المزيفة والبضائع المقرصنة وجوازات السفر المزورة، واستخدام الأموال الناجمة عن هذه الأنشطة في شراء أسلحة لصالح الحزب، أبرزها صفقة للحصول على 1400 بندقية قصيرة أميركية الصنع طراز “كولت إم-4″، حيث كان توجيه الاتهام بشكل مباشر لـ “حدرج” أول إشارة على أن القيادة العليا للحزب على الأرجح قد وافقت ونسقت واستفادت من هذه النشاطات.
على هامش صفقة البنادق نفسها، قادت التحقيقات للمرة الأولى إلى أحد أهم كوادر الهرم التنظيمي لحزب الله، وهو رجل يُدعى “عبد الله صفي الدين” والذي كان المسؤول الأول عن تسهيل عقد الصفقة. ويُعرف “صفي الدين” بوصفه أحد أعضاء الدائرة الضيقة القيادية في الحزب، ومبعوث الحزب لطهران، ويعتقد أنه المسؤول الأول عن شبكات الحزب المالية الخارجية منذ اغتيال عماد مغنية بسيارة مفخخة في عملية نسقتها المخابرات الأميركية والإسرائيلية عام 2008، وهو أيضا ابن عمة زعيم حزب الله “حسن نصر الله”، وشقيق “هاشم صفي الدين” عضو مجلس شورى الحزب، وأحد المرشحين لخلافة “نصر الله”، والمصنف أميركيا كمسؤول ذراع الأعمال التجارية للحزب.
ومن أجل تفادي الوقوع تحت طائلة القانون والعقوبات، عمدت شبكات عمل حزب الله إلى المزج بين الأنشطة الشرعية والإجرامية في شبكات عمل مختلطة من أجل تصعيب مهمة تتبعها، وكان أحد أبرز الأمثلة على هذا النمط من العمل هي الشبكة الضخمة التي أسسها رجل الأعمال اللبناني الكولومبي “أيمن جمعة”، وهي شبكة جمعت بين تهريب المخدرات من كولومبيا والمكسيك إلى الولايات المتحدة بالتعاون مع أكثر كارتيلات تجارة المخدرات وحشية في أميركا الجنوبية وهي عصابة “لوس زيتاس”(19)، واستخدمت أموال العائدات من أجل شراء كمية كبيرة من السيارات المستعملة من شبكة ضمت 300 تاجر سيارات أميركي، ثم بيع هذه السيارات لزبائن في دول غرب أفريقيا بتسهيل من نشطاء حزب الله هناك، ثم ضخ هذه الأموال لاحقا للشرق الأوسط لتمويل أنشطة الحزب، وضخ جزء منها من جديد في النظام المصرفي الأميركي من خلال مؤسسات مالية أبرزها البنك الكندي اللبناني، وقُدِّرت قدرة هذه الشبكة على غسيل الأموال بأكثر من 200 مليون دولار شهريا، ويُعتقد(20) أنها ضخت قرابة مليار دولار من العائدات إلى خزائن حزب الله.
وُضِعت أنشطة تلك الشبكات الإجرامية العابرة للحدود تحت وطأة قدر غير مسبوق من التدقيق، وسخّرت وكالات إنفاذ القانون الأميركية، بما في ذلك إدارة مكافحة المخدرات ووزارتا الخزانة والعدل، جهودها من أجل تتبع أعمال حزب الله في الفضاءات الأميركية، وتُوِّجت ذروة هذه الجهود بعملية طويلة الأمد عُرفت باسم العملية “كاسندرا” تم تدشينها عام 2008 واستمرت ثماني سنوات على الأقل، وخلُصت في النهاية إلى قيام حزب الله بعمليات غسيل أموال بقيمة تقترب من 500 مليون دولار خلال تلك الفترة، وهو ما دفع مجلس النواب الأميركي إلى تمرير تشريع خاص تحت اسم قانون “منع تمويل حزب الله” يهدف إلى إيجاد إطار قانوني لمطاردة نشطاء الحزب المحتملين.
دبلوماسية الجريمة
تحت وطأة تلك المتغيرات، كانت الشركات الداعمة لحزب الله تتعرض لضغوط غير مسبوقة، وتم تحجيم عمل تلك الشبكات بشكل كبير، إلا أن تلك الجهود لم تنجح في إيقافها تماما وذلك بفعل المظلة السياسية الفعالة التي وفرتها دبلوماسية إيران في أميركا الجنوبية، وسياستها طويلة الأمد في التقارب مع الحكومات المعادية للولايات المتحدة في دول مثل فنزويلا وبوليفيا ونيكاراغوا والإكوادور، وقيامها بربط نفسها مع التحالف البوليفاري لبلدان أميركا (ألبا)، وهو تحالف أسسه فيدل كاسترو وهوجو شافيز من أجل مقاومة أميركا بالوسائل السياسية والاقتصادية. وفرت تلك الدبلوماسية القائمة على قاعدة العداء المشترك لواشنطن أرضية مناسبة لإيران للالتفاف على العقوبات الأميركية من خلال توقيع اتفاقات سياسية واقتصادية، وفي الوقت نفسه فإنها وفرت مظلة دبلوماسية لحماية شبكات التهريب وغسيل الأموال التي كان يجري رعايتها في الكثير من الأحيان بواسطة دبلوماسيين يشغلون مناصب عليا في الهرم القيادي لتلك الدول.
تُعدّ فنزويلا المثال الأبرز(21) على ذلك، فبخلاف قيام الحكومة الفنزويلية بمنح شركات عسكرية إيرانية مساحات كبيرة من الأراضي المعزولة لتطوير تكنولوجيا الصواريخ، مثل شركة بارشين للصناعات الكيماوية الإيرانية التي تصنفها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على قائمة العقوبات، يأتي دعم الأنشطة غير الشرعية في البلاد من أعلى المستويات الحكومية. فعلى سبيل المثال، اتُهم نائب رئيس فنزويلا الحالي وصديق هوجو شافيز المقرب، “طارق العيسمي”، بتبييض الأموال وتهريب المخدرات من قِبل وزارة الخزانة الأميركية خلال العام الماضي.
وبتسليط المزيد من الضوء على سيرة “العيسمي”، تظهر المزيد من الدلائل والإشارات حول علاقة الرجل المرجحة بإيران وحزب الله، حيث استغل رئاسته لوكالة جوازات السفر والتجنيس الفنزويلية “أونيدكس” من أجل إصدار جوازات سفر لأعضاء الحزب، وكذلك أباطرة المخدرات المنتمين إلى القوات المسلحة الثورية لكولومبيا، حتى إن الحكومة الأميركية تعتقد أن العيسمي أصدر جوازات سفر استُخدمت للدخول إلى الولايات المتحدة.
في حقيقة الأمر، كان التقرب من المسؤولين الحكوميين في الدول المضيفة سياسة طويلة الأمد(22) استخدمتها الحركات الشيعية اللبنانية لتسهيل أنشطتها التجارية منذ زمن طويل، ليس في أميركا الجنوبية فحسب، ولكن أيضا في مجتمعات الشتات اللبناني في غرب أفريقيا، التي ازدهرت هي الأخرى تزامنا مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وتدفق المهاجرين الشيعة الذين سيطروا على تجارة الماس بين سيراليون وليبريا.
في ذلك التوقيت، كان منافس حزب الله الشيعي الرئيس “حركة أمل” هو من يسيطر على هذه التجارة بفضل علاقة زعيم الحركة، ورئيس مجلس النواب اللبناني لاحقا، “نبيه بري” مع رئيس سيراليون في الثمانينيات سيكا ستيفنز (1971-1985)، وهي العلاقة التي أعطت “حركة أمل” نفوذا على المجتمع الشيعي السيراليوني، ولكن قيام الحرب الأهلية في سيراليون تسبب في انقلاب الموازين لصالح “حزب الله”، من تحالف مع “الجبهة الثورية المتحدة” المدعومة من ليبيريا، وهو ما أضعف نفوذ “حركة أمل” في مواجهة الحزب الذي سيطر على تجارة الماس غير الشرعية في غرب أفريقيا عبر(23) الشركات المملوكة لقاسم تاج الدين، والتي هيمنت على تجارة الألماس والأغذية في غامبيا والكونغو وأنغولا ووفرت المال لتمويل أنشطة الحزب.
على مدار سنوات، كان وجود حزب الله في أفريقيا، وفي غرب القارة على وجه الخصوص، جاذبا للانتباه بشكل كبير، فرغم أن رجال الأعمال ذوي الأصول اللبنانية في غرب أفريقيا يحبون(24) دوما الإشارة إلى أن آباءهم استقروا في ساحل العاج وسيراليون وغانا وبنين عن طريق المصادفة، حين توقفت بهم السفن في طريقها إلى أميركا الجنوبية، فإن هناك ما يقرب من 350 ألفا من ذوي الأصول اللبنانية يعيشون هناك، وهم عدد كافٍ لجعلهم أكبر مجموعة غير أفريقية في المنطقة. وكما هو الحال مع نظرائهم في أميركا الجنوبية، فإنهم شرعوا في ممارسة الأعمال التجارية التي توسعت لإمبراطوريات ضخمة للأعمال في مجالات الإنشاءات والاتصالات والزراعة والصناعة.
وكما المعتاد، كان حزب الله يرسخ نفوذه في المنطقة مستغلا الروابط الدينية والعائلية، نفوذا وُضِع تحت دائرة الضوء حين تحطمت طائرة شركة “يونيون ترانسبورت أفريكانا” المتجهة من بنين إلى بيروت، ما تسبب في وفاة 141 معظمهم من اللبنانيين الذين كانوا محملين بمبالغ وصلت إلى 10 ملايين دولار لتوزيعها على أسرهم هناك، وهي طائرة كانت تحمل حسب ما أشيع مسؤولا كبيرا في حزب الله واثنين من معاونيه.
لاحقا، استمرت شبكات حزب الله الأفريقية في العمل بالطريقة المعتادة، ونجح الحزب في ربطها مع أنشطته في أميركا وأوروبا والشرق الأوسط من خلال رجال أعمال مثل “أيمن جمعة”، ولاحقا(25) “محمد بزي”، الموضوع على قائمة العقوبات الأميركية مطلع العام الحالي، والمالك لخمس شركات في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط هي “غلوبال تريدينغ جروب إن في” البلجيكية، و”يورو أفريكان جروب” ومقرها في غامبيا، إلى كل من “بريمير إنفيستمينت جروب سال أوفشور”، وشركة “كار إيسكورت سيرفيسيز سال أوفشور”، و”أفريكا ميدل إيست إنفيستمينت هولدنغ”، وهي شركات ثلاث مقرها جميعا بلبنان.
وعلى الرغم من التفاصيل المتتابعة والمعقدة التي تتكشف شيئا فشيئا حول شبكات تمويل حزب الله وأنشطته المزعومة غير الشرعية، لا يزال الحجم الحقيقي لإسهام هذه الشبكات في موازنة حزب الله وقدراته المالية غير معلوم بشكل كبير، وهي أرقام متأرجحة ما بين مبالغات الهيئات الأميركية والإسرائيلية حول تحول مزعوم لـ “حزب الله” إلى منظمة إجرامية كاملة النشاط، وبين النفي الكامل من قِبل الحزب الذي يُصِرّ رئيسه أنه يحصل على كامل تمويله من إيران، ويبقى الطابع السري لاقتصاد الحزب عائقا أمام مقاربة موضوعية كاملة لحجم تمويله، ويرجع ذلك إلى أن جميع أموال حزب الله، سواء تلك القادمة من إيران، أو التي يتم ضخها عبر أنشطته التجارية الشرعية وغير الشرعية، يتم تداولها بشكل نقدي أو من خلال شركات مملوكة لوسطاء، ولا تمر بشكل فعلي عبر النظام المصرفي في لبنان.
وحتى طبيعة الشبكات الإجرامية المزعوم ارتباطها بالحزب لا تزال موضع جدل كبير إلى اليوم، بين من يميلون إلى إظهار الأمر في صورة شبكات منسقة تُدار بشكل مركزي من قِبل القيادات العليا للحزب، وبين من يرونها مجرد مساعٍ من الحزب لاستغلال الجمهور الكبير للشتات اللبناني من أجل إدرار بعض العائدات وكسب المجندين لخدمة أنشطته العسكرية العابرة للحدود، وبين هذا وذاك يبقى تمويل حزب الله أحد أكثر الملفات المعقدة والغامضة التي تُثير الجدل دوما، تعقيد وغموض لا يبدو أنهما سينتهيان في أي وقت قريب.