لقد ماجت في خاطري فكرة أنني ربما أكون قد كتبت مقالي الأخير عن الموت بما يعني أنني كنت أنعى نفسي، وخفت لأنني توقعت تبعاً لنداء الوسواس أن يحدث لنا شيء في الطائرة
كنت قد كتبت مقالتي السابقة عن (الموت الذي يبكي الصغار) وأنا في صالة المطار أنتظر إقلاعنا من الرياض إلى جدة.
وما إن أنهيت المقال وأرسلته إلى الزميل سيد حكم في أبها حتى فتحت الأبواب لدخول الطائرة استعدادا للإقلاع.
في تلك اللحظة تحديدًا لا أدري لماذا داهمني هاجس الموت حتى إنه أرعبني وهز جوانحي وارتعشت معه بالفعل أطرافي، فقد ماجت في خاطري فكرة أنني ربما أكون قد كتبت مقالي الأخير بما يعني أنني كنت أنعى نفسي، وخفت لأنني توقعت تبعاً لنداء الوسواس أن يحدث لنا شيء في الطائرة، وقد تصاعد الهاجس لما تذكرت كيف أن الناس يتحدثون عن الميت بعد أن يمضي إلى حتفه، ويذكرون للاستدلال ما فعله في آخر أيامه مما يلمح إلى أن المتوفى قد شعر سلفاً بدنو أجله، ثم يقولون يا سبحان الله لعله أحس بأنه سيموت. سمعت من تلك الروايات الكثير حتى ترسخ في ذهني أن الميت يستعد للرحيل قبل قليل من موته، ومع أنه لم يسبق لميت أن عاد من مثواه ليحدثنا عن مشاعره وأحاسيسه قبل الرحيل إلا أنني قد سمعت ولست متأكداً أن في الأثر ما يشير إلى أن الإنسان المسلم يرى قبل موته تيساً أقرن مقبلا إليه بما يعني موته، وهكذا فقد توطّن في نفسي أنني بالفعل قد كتبت وأرسلت مقالتي الأخيرة، وللمفارقة أن تكون عن الموت، ومعه استشرفت كيف أن الناس سيحوقلون ويسبحون الله بعد قراءة المقال وهم يرون كيف أن إدريس الدريس قد نعى نفسه في الصحيفة.
في تلك اللحظات غشاني العرق حتى غمر جسمي وبلغ قلبي حنجرتي وتسارع عندي إيقاع النبضات وضاق التنفس وتغشّاني الخوف من قدمي إلى مفرق شعري، ثم لهج لساني بالاستغفار والتسبيح والتهليل، وتداعت ذكرياتي وسنوات عمري في شريط سريع وسريع جدًا.
ولم أتذكر في كل هذه التداعيات إلا أخطائي وتجنياتي وذنوبي، ويا ألله ما أكثرها، فأمعنت في الندم معتذرًا من ربي ومرتجيًا رحمته وغفرانه، وهكذا حتى أصابني انشراح بأن ربي قد أحبني حين عرض علي أخطائي ليفتح المجال أمامي لسؤاله العفو والمغفرة:
رحماك ربي ما أحلمك وأرحمك وأكرمك.
مضت الطائرة محلقه وسادرة في الأجواء حتى قضت وطرها وهبطت بسلام في جدة.. أجل فقد هبطت بسلاسة وسلام لم أتوقعه، لكنه الوسواس الذي بقي محرضاً بأن المنية قد تكون في الطريق من المطار إلى الفندق، وهكذا صرت أُدافع هذا الكابوس بتحذير السائق من السرعة والتنقل من حارة إلى أخرى في الطريق حتى وصلت إلى الفندق، ومن بعده أخذت المخوفة في التسرّب والذوبان لتتأجل المنيه ولله الحمد إلى قدر معلوم في لوح محفوظ.
لقد كانت للأمانة لحظات من الخوف لم أستشعرها بهذا القدر قبل هذه المرة، فبسطتها لكم في هذه المكاشفة.
والحمد لله على النسيان والأمل الذي يكتنف النفس البشرية بما يجعلنا نحن البشر نكدّ ونسعى في هذه الدنيا ونعمّر الأرض حتى يأتينا اليقين.
اسأل الله لي ولكم حسن العمل ثم حسن الخاتمة، وأن يتوفانا ربنا وهو راضٍ عنا.
الكاتب: ادريس الدريس