تستمر عمليات بيع الدولار الأميركي على قدم وساق. والمستثمرون الذين يراهنون على تراجع سعر الدولار على خلفية الاقتصاد والمركز الائتماني لدولة عملة الاحتياطي العالمي، يدفعون بالدولار الى حدود قريبة من المستويات الدنيا القياسية.
وقد استمر مسلسل الخسائر الأخيرة على مدى أسبوع كامل، وهو مجرد فصل صغير في عملية بيع واسعة مستمرة منذ صيف العام الماضي، عقب ظهور أول المؤشرات على أن مجلس الاحتياطي الفدرالي مقبل على جولة جديدة من التخفيف الكمي.
وكان مجلس الاحتياطي الفدرالي قال أخيرا إن جولة التخفيف الثانية ستنتهي كما هو مخطط لها في يونيو، لكنه قال أيضا انه ليس في عجلة من أمره لجهة تشديد السياسة النقدية.
ويتناقض هذا الموقف على نحو حاد مع الكثير من البنوك المركزية الأخرى ويفسر سبب انخفاض الدولار بنسبة %16.6 منذ يونيو مقابل جميع العملات الرئيسية المنافسة على أساس الوزن التجاري النسبي. ومؤشر الدولار هو الآن عند %3.5 فقط من أدنى مستوى قياسي وصل اليه في ابريل 2008.
وكون الأسواق لا تسعر في تعاملاتها امكانية رفع سعر الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الفدرالي حتى العام المقبل على أقل تقدير، يبدو اذا إن هناك مجالا أكبر بكثير أمام الدولار للتراجع، لا سيما أن المستثمرين يركزون هم أيضا على الآفاق الائتمانية للولايات المتحدة واقتصادها الهش.
وكانت الشرارة الأخيرة التى أشعلت موجة بيع الدولار أشعلتها وكالة التصنيف الائتماني ستاندارد آند بورز، عندما قالت إن هناك فرصة بنسبة 1 الى 3 خلال العامين المقبلين ان تخفض الوكالة تصنيف السندات السيادية للولايات المتحدة الأميركية.
المالية العامة
يقول الخبير الاستراتيجي في «دويتشه بنك» الان راسكين: «هناك فهم متنام بأن الدولار الأميركي قد يتضرر اما من وضع المالية العامة التي تضر بالنمو وتجبر الاحتياطي الفدرالي على مزيد من التكيف، واما من حالة الجمود في السياسة النقدية وخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، نتيجة مسار الديون غير المستدام، وذلك في غضون الأشهر الــ 18 المقبلة».
ويتضح حجم السلبية الذي يحيط بالدولار من خلال ضعف أدائه مقابل اليورو، الذي يقترب من أعلى مستوياته في 16 شهرا، بعد أن عوض رفع أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي الأوروبي حالة العصبية التي أصابت العملات بسبب مشاكل الديون السيادية التي تواجه اليونان وايرلندا والبرتغال.
وكان الفرنك السويسري مؤخرا لامس مستوى مرتفعا قياسيا مقابل الدولار، مدعوما جزئيا بتوقعات رفع سعر الفائدة من قبل البنك المركزي السويسري.
اضافة الى أن سياسة سعر الفائدة القريبة من الصفر التي يتبعها مجلس الاحتياطي الفدرالي جعلت من عملة الاحتياطي العالمي مصدرا جاذبا لتمويل تجارة ما يعرف بـ carry trade، وهي بيع العملات ذات سعر الفائدة المنخفض واستخدام العائد لشراء عملات ذات سعر فائدة أعلى. حيث وفرت العائدات المنخفضة للدولار الأموال اللازمة للاستثمار في أصول أكثر خطورة لكنها ذات عائدات أعلى.
ومع انخفاض الدولار، ترتفع عملات ذات سعر فائدة رسمية أعلى، مثل الريال البرازيلي والكرون النرويجي والدولار الاسترالي، الذي سجل (الأخير) مؤخرا ارتفاعا هو الأعلى له على الاطلاق منذ 28 عاما عند 1.0852 دولار أميركي.
ويدعم ذلك بيانات تظهر مراكز مكشوفة في العقود الآجلة أو رهانات على حدوث مزيد من التراجع في قيمة الدولار، وفق لجنة التداول في العقود الآجلة للسلع.
الشهية على المخاطر
ومقابل خلفية الجولة الثانية للتخفيف الكمي لمجلس الاحتياطي، فان استخدام الدولار لتمويل تعاملات الـ carry trade كان جزءا من زيادة الشهية على المخاطر للتداول، مما أسفر عن ارتفاع حاد في أسعار السلع والأسهم.
غير أن هذا الاجماع الساحق على التداول الخطر يقلق بعض المراقبين، وربما يكون قد زرع بذور تحسن الدولار في الأشهر المقبلة، لا سيما عند انتهاء الجولة الثانية للتخفيف الكمي في يونيو.
ويشكك معلقون آخرون أيضا في طول الفترة التي يمكن أن يبقى فيها اليورو مرتفعا الى هذا الحد، في حين أنه حتى في الصين يمكن أن تحدث اضطرابات في الشهية على المخاطر اذا ما نجحت جهود تشديد السياسة النقدية في ابطاء الاقتصاد.
ويقول مارك لابولا في «نايت ستراتيجيك ريسيرتش»: «وفق معدلات الصرف الحالية، فان الصادرات الأوروبية الى الولايات المتحدة الأميركية أعلى تكلفة حاليا بنسبة %20 مما كانت عليه في يونيو 2010، مما يفاقم من الضغوط المتزايدة على المالية العامة، وأسعار السلع المرتفعة وأسعار الاقتراض المرتفعة أصلا».
واذا استبعدنا حدوث استراحة مؤقتة للدولار، فإن الآفاق على المدى البعيد لا تبشر بالخير مع استمرار تطور الاقتصاد العالمي بقيادة الأسواق الناشئة، لا سيما الصين.
ويضيف واتلنغ: «على المدى البعيد، ستشهد قيمة الدولار مزيدا من الانخفاض، عندما تفتح الصين أسواقها المالية وتسمح لعملتها بالارتفاع وتتحدى وضع الدولار كعملة احتياط».
وبينما حدد المسؤولون الصينيون عام 2016 تاريخا مستهدفا للتوقف عن مراكمة الاحتياطيات، فان ذلك التأخير سيؤدي الى اضافة مبلغ آخر الى احتياطيات البلاد قوامه 4000 مليار دولار على شكل أصول دولارية، بحسب سايمون ديريك، الخبير الاستراتيجي في «بي ان واي ميلون».
ويضيف: «من غير المفاجئ أن يكون ذلك هو سبب اعتقادنا أن تحرير السياسة النقدية سيطبق بوتيرة أسرع من ذلك. ان مشكلة الصين الأساسية هي في مواصلتها العمل وفق نظام يجبرها على التدخل يوميا في السوق ومراكمة الاحتياطيات».
وبالنسبة للدولار، قد يحدث تحول نحو الهبوط الحاد اذا ما تحركت الصين بوتيرة أسرع مما هو متوقع بشأن عملتها، وأخفقت واشنطن في ترتيب أوضاع ماليتها العامة.