إكس خبر- كيف جاءت هذه الـ «داعش» ونمت وترعرعت على ضفاف ازماتنا وتخلفنا وقمعنا لبعضنا وقمع الآخر لنا؟ كيف تطورت حالة «داعش» عبر مراحل مديدة وأوصلتنا الى هنا؟ كيف تفاقم الهوس بمسألة «الحاكمية» وفرض الدين على السياسة، وتسلل من الهوامش لينقض على القلب ويمسخ الاجتماع الوطني والسياسي، ويعري كل من خلط الدين بالسياسة، او لا يزال يدور في فلك تلك الفكرة؟ سؤال «صدمة داعش» سيؤرقنا طويلاً ويعيش معنا كالكابوس المريع لعقود مقبلة. وسيُراق حبر لا ينقطع ونحن نبحث عن الاجابات، ونداور يميناً ويساراً حتى ننفي الوقع المُترجم لصورة خيالية حالمة لشكل «الدولة الاسلامية» كما نظرت اليها طوابير من الاسلامويين. «صدمة داعش» سؤال أليم ينتمي الى فصيلة الاسئلة الطاحنة التي رافقتنا بغلاظة تاريخية منذ قرنين من الزمن، ونغصت ولا تزال تنغص وجودنا كله. اسئلة الوزن الثقيل: لماذا لم نتقدم؟ لماذا هزمنا؟ لماذا لم نتوحد؟ لماذا لم نتدمقرط؟ لماذا لم نصبح مواطنين في دول وبقينا رعايا طوائف وقبائل؟ ولماذا اقامت الديكتاتورية بين ظهرانينا ولم تبرحها؟
ليست ثمة اجابات ناجزة عن سؤال «داعش» بعد، على رغم ان كثيراً منها يقدم جانباً او اكثر من القصة. سنحتاج الى وقت كاف للملمة جوانب الصدمة وتفهّم ما حدث. الاجابة التي تحيل تطور الحالة الداعشية الى تحالف الظروف القاهرة والقادمة من الخارج طوال عقود ماضية تحمل وجاهة على وجه التأكيد. والاجابة التي تحفر في بنيتا الداخلية وثقافتنا التي تكلست واستعصت على التغيير والانتفاح الحقيقي، فيها وجاهة ايضاً. والاجابة الاخرى التي فيها قدر كبير من الوجاهة هي تلك التي تنظر الى الداعشية كنتيجة تاريخية حتمية لغياب اي حركة لوثرية اصلاحية في الاسلام والتدين، تعيد تفسير وتركيب النص بناء على الواقع، وليس حشر الواقع في النص. وغير ذلك كثير من الاجابات والسجالات التي تحوم حول اولوية النص على السياق او العكس في فهم الحالة الانحطاطية القصوى التي تمثلت في الانحدار الداعشي.
بيد ان كثيراً، وكثيراً جداً، يبقى هناك في الفضاء الاجتماعي والاهلي العام بعيداً عن التنظير وبعيداً عن الحالة الداعشية، ويقاومها ليس بالفكر ولا بالتنظير، بل بزخم التجربة التاريخية، وزخم الحياة العادية وغنى خبرتها التعايشية. من قلب تلك الحياة الزاخرة والتي ما زالت تتشبث بتجربتها التعايشية تطلع علينا قصص مشرقة تناقض الإظلامة الداعشية التي سيطرت ايضاً على الأخبار والإعلام والصور وقادت الى التغريب الانتحاري للذات الجماعية، وعدم تعرفها إلى نفسها. في ما تبقى من سطور ستخرج المقالة عن محاولة الانخراط في الاجابة عن الحالة الداعشية، لأنها تحتاج الى مساحات اوسع، وتطل على تجربة او اثنتين من الحالة النقيضة للداعشية والطائفية.
التجربة الاولى والاهم التي نشير اليها هنا، والمنتصبة على الضد الكلي من المناخ الطائفي والإبادي الداعشي القاتل، تأتي من شمال فلسطين وسهل مرج ابن عامر فيها وسفوحه. فهنا تعيد قرى الناصرة، منارة فلسطين التاريخية وبلد المسيح، تقديم نموذجها الانسانوني البديع في العيش المشترك. هنا وعلى بعد عتبتين من السماء عاش مسيحيون ومسلمون بمحبة وإخاء في المدينة التي شهدت معجزات المسيح وطفولته وقيامته، وشهدت قدوم الفتح الاسلامي وانتصاراته وجاورت حطين وشملها صلاح الدين بعباءته.
في قرية كفر كنا، والتي تُعرف بـ «قانا الجليل» والتي شهدت معجزة المسيح الاولى وفق الرواية الانجيلية حيث حوّل الماء خمراً، اعلن رئيس البلدية مُجاهد عواودة، منذ اسبوعين، بناء عمارة ستحتوي على مسجد وكنيسة ومتنزه لتعبر عن الإخاء والعيش المشترك في القرية وجوارها الناصري. يقول رئيس البلدية: ان انجاز هذا الصرح الرمزي الاسلامي – المسيحي سيبدأ في شهر ايلول (سبتمبر) المقبل بعد ان رُصدت موازنة له، وخصصت قطعة ارض بمساحة ثمانية دونمات. ويوضح عواودة ان فكرة المشروع انطلقت من «المتاهة» التي تجتاح منطقة الشرق الاوسط ككل، وتتجلى بأبشع صورها الآن بتنظيم «داعش» الذي يهدد الحضارة الاسلامية اكثر من كل أعدائها عبر التاريخ… والمشروع المشحون برمزية كبيرة (يبعث) رسالة امل مفادها ان هناك حكماء على هذه الارض يستطيعون تصحيح المسار والانطلاق معاً نحو فجر عربي جديد مسلمين ومسيحيين نابع من مبدأ راسخ «لكم دينكم ولي دين» وكل الاديان لله… في كفر كنا تقاسم المسلمون والمسيحيون الرغيف والهم الواحد والامل الواحد وجمعتهم التجربة الحلوة المرّة وهم على هذه الدرب سائرون.
يعيد لنا عواودة في فكرته المبدعة والجميلة بعضاً من ذاتنا المهدورة يومياً على شاشات التلفزة والممزقة في الصراعات الطائفية التي لم يعد بإمكان احد ان يستوعبها. ما تستوعبه الفكرة الناصرية والجليلية الجليلة وتنادي به بالفم الملآن ان ليس ثمة بديل من العيش المشترك سوى الإراقة المتبادلة للدماء… وإلى الابد! هذا هو درس التاريخ في كل مكان وزمان. حيثما تتواجد جماعات تنتمي الى إثنيات وأديان وأصول مختلفة تتواجد الصراعات والحروب وسفك الدم. والنتيجة الواحدة واليتيمة بعد كل صراع هي ان على الجميع ان يجد معادلة ما مقبولة تضمن العيش للجميع. بعد المرور بكل التجارب التي دفع البشر اكلافاً باهظة لتعلم دروسها، انتقل الفهم البشري من نزعة الابادة والإقصاء الى نزعة قبول الآخر والتعايش معه، وإزاحة الفروقات والاختلافات الى الهوامش مع احترامها، والتركيز على ما هو يومي وحياتي ومشترك.
في منطقتنا العربية اليوم نحن نقف على مفترق طرق مخيف: إما الانجرار الى الخلف نحو نزعة الابادة والاقصاء وبالتالي الانخراط في «حرب الكل ضد الكل» والتي سوف لن تبقي ولا تذر ويخرج منها الجميع، بعد سنوات ان لم يكن عقود، خاسرين ومدميين ومدمرين، وإما التيقظ من المآل الرهيب للحروب الدينية والتمسك بخيار العيش المشترك والتنازلات المتبادلة. ويتفرع مفترق الطرق ذاك الى صراعات دينية وإثنية لا يمكن حصرها: ابادة مسيحية على يد الداعشيين، صراع سنّي ـ شيعي طاحن ومدمر، صراع عربي ـ كردي، صراع سنّي ـ علوي، صراع درزي ـ سنّي ـ مسيحي. هذا كله من دون ان نشير الى العنصرية الابادية الصهيونية التي سعّرت في قلب المنطقة صراعاً اسلامياً ـ يهودياً نقض قرون التعايش التي عرفتها المنطقة بين اليهود والمسلمين، من المغرب الى البحرين مروراً بفلسطين والعراق والشام.
في الجانب المشرق ايضاً وفي الرد على الجرائم الداعشية ضد مسيحيي العراق ومسلميه، وانتقالاً الى شاهد آخر وإن كان ابسط حجماً، قرأت مقالة جميلة تم تداولها في بعض وسائل الإعلام الاجتماعي من كاتب فلسطيني مسيحي رأيت ان اقتبس منه، ولو مطولاً، بعض الفقرات التي تعبر اروع تعبير عن جوهر العيش المشترك الذي شهدته المنطقة عندما كان الجميع يتعامل مع الدين والطقوس بصفتها مسلكيات تعزز الإخاء والحياة العفوية، وليس بصفتها سيوفاً تقطع رؤوس المخالفين.
يتساءل الدكتور جمال سلسع في مقالته او بالاحرى ندائه الحار والمرير: «هل احمل جذوري العربية على كتفي وأرحل عن دياري، لأن مسيحيتي ثقافتها عربية اسلامية؟ لن ارحل كمسيحي من بلدي لأن مسيحيتي ثقافتها اسلامية وأين «العهدة العمرية» يا اشقائي المسلمين؟ اين احكل دمع المثنى بن حرثة الشيباني النصراني قائد جيوش النصارى في دولة الغساسنة الذي تخلى عن الرومان النصارى، وسار مع سعد بن ابي وقاص بجيشه، وشارك في الفتوحات الاسلامية؟ كيف الملم معلقاتي الشعرية العربية الابداعية عن حائط عروبتي الثقافية وما زال عمرو بن كلثوم يردد بحضارته وجيشه الكبير… كيف انزع عن جلدي ميراث اجدادي وارتك هوائي الذي لا هواء غيره؟ ومدينتي التي في حاراتها طفولتي، وفي شوارعها رفاق مدرستي، ولما كبرنا نسجنا معاً مواقفنا القومية العربية، ضد كل محتل ومستعمر، وعلى اعواد المشانق علّق اجدادي في بلاد الشام على يد جمال باشا السفاح من اجل حرية الارض العربية؟… لماذا لم يقرأ الآخرون حضوري الوطني عندما كانت راية الاسلام التي رفعها الاتراك تدوس لواء الاسكندرون العربي، في حين كانت شوارع الشام بمسلميها ومسيحييها تخرج بتظاهرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ومن كنائس الشام وأجراس المشرق، بعد ان اقفل الاتراك كل جوامع الشام لمنع التظاهرات ضد استلاب لواء الاسكندرون، حيث تحولت كل الكنائس الى جوامع، ووقف خطيب المسلمين في محراب المسيح يلقي خطبة الجمعة، وصعد المؤذن الى قبة الناقوس يرفع الأذان. فلماذا تغلق العيون امام هذا التاريخ؟ ولماذا تصم الآذان عن صوت عروبة آتٍ من اعماق التاريخ؟».