ماذا حصل للسنيورة؟ ماذا حلّ عليه في لحظتها ليقول ما قاله وليأتي العذر أضعف من الزلّة؟ في المنطق، لم يرتكب الرجل جريمةً جُلّى متى دعم الرئيس سعد الحريري للوصول الى الرئاسة الثالثة ورئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد للوصول الى الرئاسة الثانية، ولكن “النمطيّات” التي تحكم المشهدية السياسية والتحالفات و”المُسقَطات” جعلت من كلامه ذاك “قنبلةً” قد تنفجر في وجه “المستقبل أوّلًا وتحديدًا رئيسه سعد الحريري.
ليس الرئيس تمام سلام مقدّسًا في موقعه وهو الذي يعاني الأمرّين، ولا كرسي رئاسة البرلمان حكرًا على الرئيس نبيه بري رغم أن التاريخ القريب يشهد لخلاف ذلك، بيد أن ما تفوّه به الرئيس فؤاد السنيورة في مجلس النواب عقب جلسة انتخاب الرئيس “الساقطة” يحمل من النوايا والرسائل المُشبعة “سنيوريًا” أي بأسلوب حفظه بري عن ظهر قلب وبدأ سلام يتعرّف اليه حديثًا بعدما غدا رئيس حكومة غير محسوبٍ تمامًا على التيار الأزرق. ولكن ما حقيقة ما قصده الرجل؟
استدراك…
ما هي إلا ساعات حتى عاد السنيورة “تائبًا” ليكيل من الاعتذارات الى “الرئيس الأخ” نبيه بري و”الرئيس الأخ” تمام سلام، من دون أن يُقحِم في البيان التوضيحي تسويغًا لما قال، ومن دون أن يفهم أحدٌ منه سوى أن كلامَه فُسِّر على نحو مغاير في محادثة صحافية أدلى بها. علمًا أن فحوى القول القائم على اسميْن رئيسيَّين هما سعد الحريري ومحمد رعد لا يمكن أن يحمل لبسًا على مستوى ذكرهما أو حتى في سياق استخدامهما. وتفضي القراءة في السياق الى حقيقتين: أولاهما أن هذا الكلام “التزكوي” لمحمد رعد يأتي مباشرة بعد تأكيد السنيورة تمسّكه وكتلته بترشيح النائب سليمان فرنجية لينسف بذلك كلّ كلام عن تكويعةٍ “مستقبلية” مستقبليّة لصالح العماد ميشال عون. وثانيتُهما، ربط دعم رعد رئيسًا لمجلس النواب بوصول الرئيس سعد الحريري هو الآخر الى رئاسة مجلس الوزراء، وعليه قد يبدو أن في الأمر ترجمةً واضحة لمسار الحوار الشكلي الذي يشهده قصر عين التينة الذي أقصى السنيورة سيّده في المعادلة الجديدة.
ربطان أساسيّان
لا يمكن القول حتمًا إن ما قاله السنيورة يُلزِم الكتلة برمّتها في حال التسليم بأن طفرة الثغرات في البيان التسويغي قد تؤكد شكوك كثيرين بصدقيّة تعبير ما قاله الرجل أو ما “فُسِّر في غير سياقه” حسب قوله، عن نواياه الحقيقيّة إزاء رغبةٍ دفينة في التخلّص من بري الذي “يستأثر” بالرئاسة الثانية منذ 24 عامًا وتحديدًا في خمس دوراتٍ متعاقبة مع الأخذ في الاعتبار التمديدين اللذين لحظاه مع باقي النواب. ولكن لماذا قد يريد السنيورة ذلك حتى لو أنه نفى ما قال؟ تشير مصادر في 8 آذار لـ”صدى البلد” الى أن “جميع الأفرقاء حرصوا حتى في عزّ الانقسام العمودي بين فريقي 8 و14 آذار على إبقاء العلاقة مع الرئيس نبيه برّي مستقرّة ليقين الجميع بأن الرجل قادرٌ على استنبات حلولٍ في اللحظات الحرجة ونظرًا الى تعامله بعقلانية في مجلس النواب لا من منطلق كونه رئيسًا لحركة أمل أو حليفًا لحزب الله. ولعلّ أبرز هؤلاء الحريصين كان تيار المستقبل الذي وافق على خوض حوارٍ مع غريمه حزب الله برعاية برّي نفسه، ووضع أبناء بيت الوسط ثقتهم في سيّد عين التينة طوال هذه الفترة ليتبيّن لهم أن حوارهم على شكليّته جنّب البلاد وابلًا من الفتن الطائفية المتنقّلة. اليوم ماذا تغيّر؟ قد ينطوي الجواب على ربطيْن أساسيَّين ينطبقان متى صحّا على وجهة نظر فرديّة أطلقها السنيورة لا تنمّ في الضرورة لا بل في التأكيد عن وجهة نظر “المستقبل”: أولًا، الحديث المطّرد عن تقاربٍ بين عين التينة والرابية وبينهما المختارة قد يكون سببًا عاجلًا أم آجلًا في وصول عون الى سدّة بعبدا، علمًا أن برّي بالاتفاق مع الحريري كان من أشدّ الداعمين لفرنجية لا بل من أشدّ المصرّحين بأنه لن يمنح صوته لعون في حال الاحتكام الى التصويت في البرلمان. ثانيًا، قد لا تروق لكثيرين ومن بينهم الرئيس السنيورة كلّ “التفنكات” التي يخرج بها برّي في طاولة الحوار وآخرها طرح إنعاش مجلس الشيوخ”.
تباين الأولويّات
كثيرًا ما اتفق “المستقبل” وبرّي في محطاتٍ ليس آخرها ترشيح فرنجية وقبلها حكاية التمديدات المتتالية، بيد أن الفترة الأخيرة تشهد تباينًا صريحًا في الأولويّات تجلى في إيثار برّي أولويّة إنتاج قانون إنتخابي عادل يُبعِد شبح قانون الستين كي لا يرجم الشارع حُكامه، وهو القانون نفسُه الذي يسعى “المستقبل” جاهدًا الى تثبيت دعائمه على أنه القانون الأكثر تفصيلًا على قياس تمثيله الحديث والذي ظهرت فيه تبدّلاتٌ جمّة بعد الانتخابات البلديّة الأخيرة. وعليه برّي الذي يُقال أنه حمى “المستقبل” من انتخاباتٍ نيابيّة خاسرة في العام 2015 بذرائع أمنية، هو نفسه اليوم يخلط القوانين بالقانون المُختلط ويعود الى صيغةٍ ترضي الشارع المسيحي أولًا. هذا طبعًا من دون الحديث عمّا تغمز من قناته مصادر في 8 آذار بإشارتها الى أن “التقارب النفطي بين عون وبري لم يرضِ السنيورة المعتاد على اقتسام المغانم مع الجميع في كلّ صفقةٍ رابحة. وفهمكن كفاية”.
ينتفي السؤال!
ليس لدى مصادر “المستقبل” ما تقوله. فهي الحائرة في فترات ما بعد الظهر تتنفّس في فترات المساء الأولى بعد إصدار السنيورة بيانه التوضيحي، وبالتالي تهون عليها المهمّة بتبنّي العبارة “الكليشيه” الإنقاذية: صاحب العلاقة قال ما لديه وأوضح حقيقة موقفه، وبالتالي من غير المجدي تفسير ما لا يجب أن يُفسَّر أو أن يُعطى أبعادًا أكثر مما يحتمل. هو سوء استخدام أو فهم خارج السياق ببساطة، وبالتالي مع توضيح السنيورة ينتفي سؤال: هل يعكس موقفه وجهة نظر المستقبل أم هو مجرّد رأي فردي؟”… كثيرًا ما استخدم السنيورة نفسه في بيان الكتلة الأسبوعي عبارة “هذا رأي فردي” لا سيما في محطات إحراج فرضها على التيار الوزيران أشرف ريفي ونهاد المشنوق والنائبان خالد الضاهر ومعين المرعبي. وكثيرًا ما اختلطت أوراق التيار أخيرًا مع ظهور أصواتٍ مؤيّدة للعماد عون داخل التيار الواحد وإن بقيت أقليّة. ولكن السؤال الأجدى في هذه المضمار: لمَ سيترك السنيورة مسافةً زمنية غير قليلة بين موقفه وتوضيحه طالما أنه سوء فهم “طنطنت” به الدنيا وتبنّته وسائل الإعلام وراح المحللون يبنون عليه؟ وهل استدرك الرئيس الحريري الموقف ليحفظ ماء وجهه أولًا وتياره ثانيًا ورئيس كتلته ثالثًا؟
موضع شكّ لأمثال السنيورة (أي الأشخاص في موقعه) زلاتُهم لا بل هفواتُهم. بعضها يكون مكلفًا أكثر من المتوقّع لا سيما عندما تُظهّر الأمور على أنها تشكيكٌ بحسن قيادة الرئيس نبيه بري الذي يكفيه أنه لم يعصَ عليه أن يُجلس المستقبل وحزب الله الى طاولة واحدة… في هذه الحالة استثنائيًا يغدو أي تعقيبٍ توضيحي فاقدًا للصدقيّة أو موضع شكّ لا سيّما متى قُورب في السياق العام الذي “خذل” السنيورة المتفوّه والدقيق…