إكس خبر- في مقالين منفصلين، يخلص كاتبان مرموقان، هما جمال خاشقجي («داعش» باقية وتتمدّد… أم زائلة لا محالة؟»، الحياة 28/6/2014) وياسين الحاج صالح («خلافة «داعش»: تبقى… على ألا تتمدّد»، «الحياة» 15/7/2014) إلى ما يشير إليه عنوان المقال الثاني بوضــوح. ويتـــفق المقالان في النتيـــجة كما في السبب المركزيّ لها، وهو عدم رغبة الولايات المتحدة الأميركية في الدخول في حربٍ جــديدةٍ تهدف إلى القضاء على التنظيم/ الدولة، واعتماد سياسة ترك الأمر لحلفاء إقليميين أو للسكان المحــليين أنفسهم، مع تقديم الدعم الممكن لهم.
يجدر الاهتمام بالطرح الذي قدّمه الكاتبان. فالأول متابعٌ وثيق الصلة لتنظيمات السلفية الجهادية ولطورها الداعشيّ، لا سيما الرافد السعوديّ له، مع الإطلالة على مطبخ القرار في الخليج. والحاج صالح من أبرز محللي الشأن السوريّ وثورته. وفضلاً عن ذلك، يبشرنا الكاتبان بما يسوؤهما أصلاً، ويسوؤنا عموماً، وبالاستناد إلى جملة معطياتٍ ورؤىً وتحليلات، مما يفصلهما بوضوحٍ عن مقالاتٍ، عربيةٍ في الأكثر، لم تسلم من آثار إشعاع القوة الذي بدا على «داعش» إثر استيلائها المباغت على الموصل في العراق، وفرض سيطرتها على معظم محافظة دير الزور في سورية، وبينهما إعلان الخلافة وظهور أميرها أبي بكر البغداديّ، مع رسائل إعلاميةٍ متعدّدةٍ قدّمتها «الدولة»، تعمّدت فيها الإبهار واستعراض التمكين.
ولكن، لندلف من الخريطة الواسعة التي صارت مجللةً باللون الأسود إلى تفاصيلها، ولنتساءل ما هي عناصر بقاء دولة «داعش» ومقوماته؟ ففي العراق، حيث مهوى فؤاد التنظيم وساحته الأمامية، وعلى رغم غموض توزع القوى الكثيرة التي سيطرت على مناطق سنّية، تفيد التقارير الأكثر جديةً بكون التنظيم مجرّد رأس حربةٍ دمويّ متفقٍ على تقديمه إلى صدارة تمرّدٍ أعمق وأوسع منه بكثير، سياسياً وبشرياً، لأسباب النكاية ونفاد الصبر على سياساتٍ طائفيةٍ وإقصائيةٍ معروفة. ومن غير المرجّح أن يكون شركاء التنظيم في وارد التسليم له بقيادة المرحلة واستثمارها السياسيّ، فضلاً عن الانضواء على محمل الجدّ في ظلّ دولته المزعومة، لا سيما وأنهم خبروه حاكماً مفاجئاً بعد إعلان دولته في العراق، وعدواً ضعيفاً في آخر حقبة الصحوات، ولم تعد لدعايته ولنمطه تلك الجدّة الجاذبة أو المربكة التي ما زال يتمتع بها في سورية. ولا نعدم المؤشرات على أن التنظيم وعى هذا الدرس على الأراضي العراقية، فها هو يحالف فيها من هم أبعد عنه بكثيرٍ من أشقائه التنظيميين والفكريين في جبهة النصرة التي يحاربها في سورية. ولأن الحلفاء العراقيين يحافظون على الباب موارباً أمام السياسة والتدبير، فمن الممكن لأية تسوية مقبولةٍ أن تحيل «داعش» إلى تقاعدٍ قسريٍّ، لن يكون بعيداً عن مكافأةٍ دمويةٍ متبادلةٍ لنهاية الخدمة.
أما في سورية، فالملاحظ أن تمدّد «داعش» الأخير في محافظة دير الزور قام على مصانعاتٍ كثيرةٍ ومتنوعة، أنجزت بالقطعة ووفق شروطٍ متباينة، مع مدن المحافظة وقواها العسكرية وعشائرها، وبشكلٍ غلب فيه السعي وراء السيطرة السريعة على التفكير في سبل بقائها. فتحت يافطة البيعات دخل في عباءة «الدولة» خليطٌ كرنفاليٌّ من البشر، يبدأ بالناشطين السلميين السابقين وينتهي بمقاتلين على خصومةٍ وثأرٍ عشائريين مع من كان قد بايع جبهة النصرة، مروراً بمقاتلين من الجيش الحرّ أعوزتهم الذخيرة وتأمين شؤون العيش مع القتال، وإعلاميين شبابٍ خارجين تواً من منظماتٍ علمانيةٍ، قادهم إلى «داعش» الخوف أو الانبهار، ومطلوبين لتجاوزاتٍ انتسبوا إلى «داعش» طلباً لبراءة ذمّةٍ قاهرة ومستقوية، ووجهاء محليين كانوا قد اعتادوا بيعة نظام الأسد في ما سبق، وهمّهم الآن ضمان التحالف مع الأقوى والاستمرار. فضلاً عن القوّات التي ظلت معاديةً واضطرّت إلى الخروج من مدنها وبلداتها إلى مناطق سوريةٍ أخرى لتتابع القتال، على أمل العودة، وعن الآثار العميقة التي نتجت من إخضاع مدنٍ وعشائر بالقوّة المكرهة والضحايا وباتفاقات استسلامٍ مذلة.
وإذا كان الأمر قد استقام لـ «داعش» في الرقة، نتيجة ضعف قواها العسكرية الثورية الخاصّة، وعدم تغلغل مناخ الرفض فيها، فقد عاش أهل دير الزور الحرية حتى الفوضى، في نواحي التسليح والنفط والآثار وسواها. وإن كانت الفوضى قد وصلت إلى ثمالتها، مما ينتج الرغبة في الركون إلى نظام، فإن ما تقدّمه «داعشط، بالاستناد إلى سوابقها في حكم الرقة ومناطق من ريف حلب، وستكون أبرز معالمه السلوك السوبر أمني والدمويّ، كفيلٌ بمراكمة الرفض والأحقاد لا الاستقرار، على رغم قضائه بشكلٍ فوريٍّ على بؤر التمرّد المفترضة.
ولننسَ طبعاً العلاقات الخارجية والتمثيل الديبلوماسيّ لـ «دولةٍ» تلقت توبيخاً حتى من إمارة طالبان الإسلامية، الطللية، بينما بايعتها جماعة بوكو حرام النيجيرية وعددٌ من ملتقطي الصور لأنفسهم (السيلفي) في الخليج. ولنتساءل ما الذي ستقدمه لرعاياها «خلافةٌ» يقوم اقتصادها على الغنيمة؟ وإذا كانت السوق الموازية للنفط قد نجحت حتى الآن في تمويل هذا التنظيم، وسواه، فهل سيقوم اقتصاد دولةٍ على تهريب النفط وصفقاته غير المشروعة ببيعه (والغاز) للنظام السوريّ بشكلٍ فرضته ظروف الميدان؟ وهل سيستمرّ «داعش» في السماح لبعض المؤسسات بالعمل، لا سيما الصحية والتعليمية منها، على أن يتابع موظفوها تلقي مرتباتهم من النظام، كما هو حاصلٌ في الرقة ومدنٍ في ريف حلب؟ أو هل سيستمرّ في السماح لأعضاء موثوقين أو مفروضين في المجالس المحلية القائمة بتلقي المعونات ودعم المشاريع من منظماتٍ غربيةٍ أو من الائتلاف «الوثنيّ» والحكومة الموقتة الكافرة، كما سبق أن فعلت مراراً؟
وإذا كانت «الدولة» في طور عراقها وشامها قد تجنبت الصدام مع النظام وحافظت على بقاء قطعاته العسكرية في مناطق سيطرتها، فهل ستستمرّ الخلافة المنتشية في هذا السلوك؟ وهل سيستمرّ النظام في ذلك، وقد بدت بوادر قصفه لمواقع «داعش» في الرقة ودير الزور، ربما لاستشعار تعاظم خطرها، أو سعياً وراء حجز حصّته في «الحرب على الإرهاب» مدخلاً لإعادة تعويم شرعيته، كما تذهب تحليلاتٌ كثيرة. وهل يمكن اعتبار حرب «داعش» المتعاظمة مع الأكراد، وممثلهم العسكريّ حزب الـPYDالقريب من النظام، مقدمةً لحربٍ قد تشمل هذا الأخير؟ وما مغزى الحرب مع الأكراد أصلاً، وهي مكلفةٌ بشــكلٍ متزايدٍ تجنبته «داعش» في مواضع عدةٍ، سعياً وراء مراكمة قوتها على حساب قوى الثورة؟
باختصار، اندلعت «داعش» في شقوق الضعف والارتباك والترهل التي أصابت كلّ الفاعلين في المنطقة، من أصغر كتائب الجيش الحرّ وحتى إدارة أوباما، مروراً بنظام بشار الأسد، وبالتمثيل السياسيّ للثورة السورية، وبداعميها الإقليميين المختلفين، وبتنظيم القاعدة الأم، وبالمشهد السياسيّ العراقيّ. وأعلنت «دولةً» بالغة الركاكة والهشاشة في لحظة فراغٍ استثنائيٍّ متعدّد الطبقات، وليس أساساً مناسباً لولادة بنيةٍ «باقية».