اندفع متطرفون إسرائيليون إلى مكاتب “الجزيرة” في القدس المحتلة قبل أسابيع معدودة، وألصقوا لافتات تنادي بإغلاقها وأطلقوا شعارات فاشية. لم يتأخر متشنِّجو حكومة الاحتلال طويلا، فقرروا وقف عمل شبكة “الجزيرة”، وتغيير قواعد اللعبة الإعلامية انسجاما مع مساع إقليمية جارفة لفرض حقائق قسرية. ثمة حاجة إلى إغراق الجماهير بالحبوب المنومة لتغييب وعيها بما يجري الإعداد له.
باحت القمة العربية في الربيع الماضي بالتوجه إلى إبرام “مصالحة تاريخية” مع نظام الاحتلال، وتحدث آخرون عن “صفقة القرن”، وتراكمت الإشارات إلى التحول مع إنزال دونالد ترمب في المنطقة، وهو الذي لا تعنيه سلامة الصحافة أو حريات الشعوب في مسعاه لانتزاع المليارات السخية واختلاق الوظائف لناخبيه.
صفقات الوعي المغيب
تقول خبرات الإقليم إنّ إبرام اتفاقات التسوية السابقة تم دوماً في غيبة الشعوب، التي لم تقع استشارتها في صفقات الإذعان الإستراتيجي تلك. مضت جولات كامب ديفد ومدريد وأوسلو ووادي عربة تباعا خارج نطاق التغطيات التي نعرفها اليوم، فقد وقع احتكار صارم للعناوين والمضامين لصالح شعارات جوفاء تشيد بالإنجازات والانتصارات التي ستحيل البلاد فردوساً أرضياً، وكان على النخب أن تقود وصلات التصفيق لها بحرارة.
ينسى بعضهم اليوم أنّ الصحف الفلسطينية ذاتها كانت زمن اتفاق أوسلو -الذي اختمر سراً- مكرسة لتسويق رأي رسمي أوحد باسم “الإنجاز التاريخي” و”سلام الشجعان”، وآنذاك أيضاً كانت المضامين الإعلامية العربية تجترّ مفردات وكالات الأنباء الغربية من قبيل “حائط المبكي” لا حائط البراق.
جرت مياه وفيرة في الوادي، بعد أن جادت التطورات التقنية على العرب بملاذ من القمقم الإعلامي الذي حوصرت شاشاتهم داخله ردحاً من الزمن. لكنّ حكومة نتنياهو تحلم الآن باحتلال أبصار العرب وأسماعهم، بعد أن انفتحت شهيتها وأقدمت على محاولات منسقة للتحكم السافر في مقدساتهم فتحاً وإغلاقاً وتقسيماً وتفتيشاً وهيمنة.
في الهجمة الإسرائيلية على “الجزيرة” عدوان رمزي على مشاهديها، وانتهاك لحقهم في الحصول على المعلومات ومواكبة الأحداث ومعايشة اللحظة. ينسجم هذا المسلك -على أي حال- مع حرص نظم الاحتلال الجائرة على التحكم في اتجاهات التغطية ووضعها في مسارات معينة وفرض روايتها بأي ثمن.
يكتسب المنحى أهمية خاصة بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي تتصدّر “الجزيرة” تفضيلاته الإخبارية، وكذلك بالنسبة لجماهير المشاهدين عربياً وعالمياً، الذين يعتبرون هذه الشبكة وسيطاً إخبارياً متقدماً في ما يتعلق بشؤون فلسطين والمنطقة خاصة.
بيد أنها ليست هجمة على “الجزيرة” وحدها؛ فهي صولة تهشيم للإعلام والصحافة ككل لن تسلم منها قنوات ومنابر عدة. تندفع قيادة الاحتلال مثل فيل هائج داخل متجر خزف، وهي إن أفلحت في حظر “الجزيرة” دون ضجيج فسيقع السقف على رؤوس قنوات ووسائل إعلام شتى، تعمل في فلسطين والفضاء العربي.
لا حاجة لأن تتضافر المؤشرات على ذلك، فقد جرّبت وسائل إعلام فلسطينية وعربية -خلال الأسابيع الأخيرة- تصعيدا ميدانيا خشنا، أقدمت عليه قوات الاحتلال باقتحام مكاتبها في الضفة الغربية والعبث بمحتوياتها، بينما أسرفت في اعتقال الصحفيين والتنكيل بهم، متمتعة بحصانتها المديدة من النقد.
تبقى هذه القاعدة الحربية الضخمة في عيون حلفائها “دولة ديمقراطية غربية الطابع”، رغم كل ما أقدمت عليه من حملات عدوان وتوسع استيطاني، وتشييد جدران وفرض حواجز وتخفيض منسوب البروتين لدى الغزيين، وصولاً إلى العبث السافر في قلب القدس، وتكريسالإعدامات الميدانية المتواصلة على نحو يومي تقريباً.
سلوك شرق أوسطي
لكنّ حكومة الاحتلال أوحت -في بلاغها ضد “الجزيرة”- هذه المرة بأنها قررت التصرف بطريقة “شرق أوسطية”؛ فقد ظهر وزير يحمل اسماً عربياً للإعلان عن إخراس الصحافة وسحق الإعلام. إنه ليس سوى أيوب قرا الذي تقدّموا به لأنه من حاشية بنيامين نتنياهو المخلصين.
وهو تعبير أمين عن “العربي الجيد” الذي يحق له الصعود في دولة الأبارتايد، بينما تتوالى الإجراءات العقابية حتى على نواب الكنيست الذين تمرّدوا على دور كارهي أنفسهم في الفضاء العام، أو ماسحي الأحذية في بلاط الاحتلال، فأعلنوا التحدي والمناجزة.
ويبقى هذا الوزير الأخرق تعبيرا مرئيا عن إخفاق مشروع الأسرلة الذي لم يجد في نهاية المطاف سوى نموذج بائس لتقديمه، معبراً عن اللسان العربي المخلص في خدمة المشروع. ومن جديد الحالة أنّ نظام الاحتلال لم يسبق له أن أقدم على تبرير خطوة يخطوها بذريعة الالتحاق بمواقف عربية.
توحي هذه السابقة بأنّ القيادة الإسرائيلية ماضية في تكريس محور إقليمي يدور في فلكها، في تواطؤات ستتعاظم كلفتها على بلدان المنطقة وشعوبها ومستقبلها، بما يبلغ حد خنق أنفاسها وتجفيف حقوقها وحرياتها، وإعادة إنتاج دينها وتعليمها وثقافتها وفق تقاليد “حرب الأفكار”، التي تتفاعل بضراوة تحت ستار مكافحة التطرف والإرهاب.
خلافاً لظاهر الرواية الإسرائيلية؛ فإنّ قرار حظر “الجزيرة” لم يأت على منوال سوابق عربية، فالحقيقة أنّ الخطوات العربية الأخيرة هي من سعت إلى شيطنة “الجزيرة” دوليا باستحضار مسوغات نمطية لدى الدعاية الإسرائيلية؛ مثل الرمي بالتحريض وتشجيع الإرهاب والعداء للسامية.
ليس محوراً سنياً معتدلاً هذا الذي تتحدث عنه حكومة نتنياهو، بل هو محور إسرائيلي الوجهة والروح واللغة بالأحرى، وآية ذلك تفانيه في إلصاق وصمة الإرهاب بمقاومة الشعب الفلسطيني، وإمعانه في استحضار إيحاءات صهيونية في منابر عربية. وفي النهاية؛ تبدو بعض العناوين والتصريحات والتغريدات -المتدفقة في الفضاء العربي الراهن- نسخاً رديئة من صياغات دعائية إسرائيلية نمطية.
تتضمن الهجمة الإسرائيلية على “الجزيرة” حملة ضارية لشيطنتها، لكن كيف سينجح متحدثو الاحتلال في إقناع العالم بذلك وهم الذين لم ينقطعوا عن شاشاتها التي تتعاقب عليها وجوه السياسة الدولية ونخب العالم؟! لم تجد حكومة الاحتلال -مع هذا المنطق الهش- أكثر من الاحتجاج بسلوك دول عربية سبقتها إلى حظر الشبكة، في مسعى تبريري عاجز للخطوة الخشنة.
مهما حشدت الأبواق الإسرائيلية من ذرائع لتبرير استئصال “الجزيرة”؛ فإنّ كل هذا الحنق لن يخفي انزعاجا عميقا لدى نخبة نظام الاحتلال من مجرد وجود إعلام عربي منافس إقليمياً ودولياً، بعد عقود تباهت طوالها أوساط إسرائيلية بما تتمتع به روايتها الدعائية من حظوة عبر العالم، ومن منسوب متابعة عربي لإذاعة الاحتلال الموجهة.
انقشعت الهالة مع خواتيم القرن العشرين، بعد أن كان مستمعون عرب يتسابقون لالتقاط “صوت إسرائيل من أورشليم القدس”، بدل موجاتهم الرسمية المنشغلة بتمجيد الواقع. فتحت “الجزيرة” البوابة سنة 1996 فأدرك الجميع أنّ البروز الإعلامي الإسرائيلي في المستوى الإقليمي مشروط بغياب إعلام عربي منافس.
حاولت حكومة أرييل شارون اللحاق بالعربة الأخيرة فأطلقت فضائية لمخاطبة العالم العربي، مدفوعة بثقة زائدة أوهمتها بالقدرة على تجديد العهد بنجاحات زمن الراديو. انهارت التجربة التي تجاهلت عمق التحولات التي طرأت على البيئة الإعلامية من حولها.
وهي عظة أدركتها إدارة بوش أيضاً بعد أن دفعت بباقة قنوات ومحطات تلفزيونية وإذاعية لمخاطبة العرب و”كسب العقول والقلوب”، في ظلال غزواتها العسكرية المكللة بشعارات “نشر الحرية والديمقراطية”، و”الحرب على الإرهاب”. وسرعان ما تضعضعت قناة “الحرة” وإذاعة “سوا” ومجلة “هاي”، التي لم تكسب قلوب العرب ولا عقولهم في النهاية.
ذرائع لن تجدي
يحشد متحدثو الاحتلال المبررات لحظر شبكة “الجزيرة” في فلسطين، وقد كانوا يتسابقون للظهور على شاشاتها ومخاطبة مشاهدي العرب والعالم بمحفوظات الدعاية الإسرائيلية، دون أن يفلحوا في كسب العقول والقلوب لروايتهم المحبوكة.
لقد انتهت اللعبة بالنسبة لهم الآن، إذ يرون فرصة سانحة لتغيير قواعدها ضمن منعطف إقليمي ودولي. وثمة أمل بإطفاء تلك النقطة من جغرافيا العالم التي برز منها نظام إعلامي عربي جديد عبر عقدين كاملين، وهل من فرصة تعدل جموح أشقاء الخليج في الحصار والقطيعة والتصعيد بحق الداخل الخليجي ذاته؟!
يبقى الإقدام على حلول خشنة في مواجهة “المرئي والمسموع” -من قبيل حظر شبكة “الجزيرة”- تعبيراً ضمنياً عن عجز نظام الاحتلال عن المنافسة التقليدية، أو كسب الجولة الإعلامية بالطرق الناعمة.
تراهن حكومة نتنياهو المتغطرسة على إعادة الإعلام العربي إلى القمقم مجددا، كي تتصدر فضاءاتِ العرب روايات ملفقة تحلو لنظام الاحتلال. باتت المراهنة واضحة على إخلاء الساحة لشاشات التهدئة والتضليل المحسوبة على “دول عربية سنية معتدلة وعاقلة”، حسب التعبير الرسمي الإسرائيلي.
حتى إنّ هذه الشاشات لم تكترث بالهجمة على المسجد الأقصى إلا لتدبيج الرواية الرسمية عن فتح أبواب القدس باتصالات حثيثة وجهود كريمة، أرهبت الاحتلال في محافل العالم فانصاع لها صاغراً ولم يعقِّب.
لا مجال للشك في أنّ أي عدوان إسرائيلي جديد سيأتي مشفوعاً بإسناد مخلص من منابر إعلامية عربية، وسيكون الموعد مع نزول معلقين عرب مدفوعي الأجر إلى خندق الاحتلال ضد الرواية الفلسطينية، وسينهمكون في لوم الضحية وتبرير جرائم الحرب، وفق تقليد تفاقم خلال الحملات الحربية التي شنها جيش الاحتلال عبر العقد الأخير من 2006 وحتى 2014.
وقد بلغ الأمر مبلغه بأن تحتفي أبواق الدعاية العبرية بتعليقات إعلامية عربية، وأن تعيد الخارجية الإسرائيلية نشر مقالات عربية لأنّ مضامينها استدعت ذرائع الاحتلال الساذجة أساساً دون تحوير ولا تبديل.
رغم هذه المراهنات جميعاً، فإنّ حكومة نتنياهو تغامر مجددا بعد تجربتها في القدس، وها هي تتصرف بثقة زائدة عن قدراتها، دون أن تتحسب لعواقب تغيير قواعد اللعبة. أثبتت التجارب أنّ إغلاق مكاتب الصحافة والإعلام لا يحجب المشهد بالكامل ولا يعزل التغطيات؛ بل يحرر سقوفها أكثر فأكثر وينقل الصنعة من المكاتب إلى فضاءات الجماهير.
قد تتمكن حكومة الاحتلال من وقف عمل مراسلي “الجزيرة”؛ لكن ما بوسعها أن تفعل مع فلسطين كلها عندما تندفع إلى ملء الفراغ وكيل الصاع صاعين؟ تم تجريب ذلك خلال تطورات القدس الأخيرة، عندما عجز المراسلون عن اجتياز عوائق الاحتلال المتعاقبة، فباشر المقدسيون التصوير والتعليق والبث من زوايا الميدان، وحملوا العالم إلى أزقة بلدتهم القديمة لحظة بلحظة، وكانت معايشات لن تُنسى.
إن أوقفت سلطة الاحتلال مراسلي “الجزيرة” الآن فستكسب الشبكة حشود المراسلين والمراسلات من حاملي الهواتف في ثنايا الميدان، ويكفيها وسم واحد يظهر على شاشتها حتى تتفاعل الحالة.
على فريق نتنياهو المتغطرس الاعتراف أخيراً بأنّ مشروع الاحتلال في فلسطين تم تصميمه في قرنين منصرمين، وليس لزمن البيانات المتدفقة والبث المباشر والتشبيك الحر والصورة النقية والمشهد الحي. بوسع الجماهير العالقة تحت القصف وبين الجدران والحواجز أن تصنع الحدث في الميدان، وأن تكسب العقول والقلوب بجهاز محمول، هو اليوم أذكى من منظومة دعائية عملاقة، صبّت فيها حكومات الاحتلال المتعاقبة عُصارة العالم.