كتبت ايفا الشوقي لجريدة الأخبار – لم تكشف حملة سلامة الغذاء التي أطلقها وزير الصحة العامة وائل ابو فاعور، حجم الفساد المستشري في البلد فقط، إنما كشفت «بوقاحة» عن حجم شبكة المصالح المتجذرة وقوتها التي مكّنتها من التصدي للحملة في أماكن كثيرة أبرزها في مجلس الوزراء والقضاء
عندما أطلق وزير الصحة العامة وائل ابو فاعور حملة سلامة الغذاء أرادها ألّا تكون «زوبعة عابرة». أصرّ كثيراً على أنها ليست «حملة موسمية» إنما هي آلية روتينية ستبدأ وزارة الصحة بتطبيقها بعدما تأخرت سنوات طويلة عن ذلك. خفت وهج «الحملة» إنما المداهمات مستمرة، ما يعني أن الآلية، الى اليوم، سلكت المجرى الذي أراده الوزير.
واجه أبو فاعور للمرة الأولى خلال تجربته السياسية شبكة المصالح المتجذرة في البلد والتي يعرف الجميع، ومن بينهم أبو فاعور، قوّتها. انتفض أرباب هذه الشبكة للدفاع عن أنفسهم، فنجحوا في أماكن وفشلوا في أماكن أخرى. يشرح أبو فاعور لـ «الأخبار» كيف يعمل أرباب هذه الشبكة عندما يمسّ أحد ما، حتى لو كان من صلب تركيبة السلطة، مصالحها، فيتحدث عن «حمايات سياسية» وعن «رجال اعمال على علاقات مع سياسيين، اضافة الى بعض الامتدادات في بعض الأجهزة الامنية والقضاة». يقولها أبو فاعور باختصار وببساطة: «يكفي ان تذهب عند الساعة الثانية الى مطعم راقٍ في رأس بيروت وترى الترابط بين السياسة والأمن وأصحاب المصالح، إضافة إلى بعض القضاة».
يشدّد على «بعض» القضاة، مستطرداً: «القضاء تعامل مع الحملة بالكثير من الجدية». خلص الوزير في تجربته الأولى إلى ثلاثة استنتاجات أولها أن «العلانية التي اتُبعت أحرجت الجميع وشكّلت وسيلة المحاسبة الأولى»، وثانياً «لولا الإعلام لما وصلت الحملة الى هذه النتائج»، أما أخيراً فـ «الدولة يمكنها، إذا أرادت، أن تكون أقوى من الجميع». نجحت الحملة في تخفيف نسبة العينات غير المطابقة التي أصبحت اليوم فقط 15% من مجموع العينات، إلا أن ما أعلنه الوزير سابقاً لـ «الأخبار» عن أن المحاسبة لم تحصل، أكّده مجدداً: «عملية كشف الفساد حصلت، لكن عملية محاسبة الفساد لم تبدأ، أو فلنقل بدأت بشكل خجول جداً». يقول أبو فاعور أنه جرى توقيف 29 شخصاً وفق ما أبلغه به وزير العدل أشرف ريفي، كما بدأ التحقيق في 103 محاضر. لكن لماذا قال أبو فاعور إن المحاسبة الفعلية لم تبدأ؟
هنا، يعود الحديث عن شبكة المصالح؛ ماذا حصل في قضية «زريبة» المطار حيث عُثر على مواد فاسدة في عنابر الشحن وبرادات التخزين في مطار بيروت الدولي؟ «لم يحصل شيء»، يقول أبو فاعور، «لم يتحرك أحد إدارياً او قضائياً، حتّى أنه الى اليوم لم يتم تحديد المسؤوليات». آنذاك -أي في 24 كانون الأول 2014- أعلن أبو فاعور عقب جولته في المطار أنه أحال ملف المخالفات في المطار على النيابة العامة التمييزية. منذ تلك اللحظة بدأ سيناريو تقاذف المسؤوليات المعتاد بين وزارة المال، التي تقول إن المسؤولية تقع على شركة الشرق الأوسط لخدمة المطارات «ميز»، والشركة التي أعلن رئيس مجلس إدارتها النائب غازي يوسف عدم مسؤوليتها عن محتويات البرادات.
يُستنتج من كلام ابو فاعور أن الملف جرت لفلفته. المستودعات أيضاً لا تزال مقفلة، إذ أكد أبو فاعور أنه «لم تجرِ أي عملية تأهيل على الرغم من اتصالي بوزير الأشغال العامة غازي زعيتر ثلاث مرات من أجل متابعة ما يحصل». تستخدم الدولة برادات شركة TMA «بشكل موقت» الى حين تأهيل البرادات المغلقة، التي مضى على الكشف عنها أكثر من شهرين.
من «زريبة» المطار ننتقل إلى «مزبلة» الإهراءات، حيث وُجدت جرذان وطيور ومياه آسنة في مخازن القمح. هنا أيضاً «لم يحصل شيء»، يقول أبو فاعور، مضيفاً ان «القضاء لم يتحرك وأنا أحلت الملف على التفتيش المركزي، إلا أنه لم تصدر بعد أي نتائج». يشير الوزير إلى أننا «ما زلنا نضع القمح في الإهراءات القديمة الا أنه أجري بعض التحسينات، وخلال 10 أيام ينتهي التأهيل بالكامل وفق ما أبلغني وزير الاقتصاد ألان حكيم».
مدعي عام التمييز القاضي سمير حمود سبق أن أعلن لـ «الأخبار» في 22 كانون الثاني، أن التحقيقات «مستمرة» في قضيتي مستودعات المطار وإهراءات القمح.
أما قضية السكر الفاسد التي أشعلت الخلاف بين وزارتي الصحة والاقتصاد، تحركت فيها أيضاً «شبكة المصالح» وبعلنية تامة. فالـ1083 طناً من السكر المنتهية الصلاحية، التي بقيت من شحنة بلغت 25400 طن دخلت مرفأ طرابلس في 7 نيسان 2013، وأُفرج عنها بعدما وافق أبو فاعور على إخراج السكر من المرفأ شرط أن يجرى تتبعه إلى معمل التكرير وإعادة الكشف عليه قبل تصريفه في السوق. يقول أبو فاعور: «تبيّن لاحقاً ان المستورد ليس لديه معمل تكرير وبالتالي الـ 25400 طن الفاسدة دخلت السوق». لا ينتهي الأمر هنا، فقد كشف ابو فاعور سابقاً لـ «الأخبار» عن توقيف تاجر السكر رئيف قاسم لكنه عاد وأعلن بعد أيام أنه «ما لبث أن أُخلي سبيله». لماذا؟ يجيب أبو فاعور اليوم: «لا أعرف»، لكنه يلفت الى أن شحنة السكر الفاسدة الثانية (14600 طن) لن تدخل السوق وقد وافق حكيم على اعادة تصديرها.
مسلخ بيروت لا يزال مقفلاً وسيبقى كذلك، إذ اعلن أبو فاعور أنه «يبدو ان هناك قراراً سياسياً بعدم فتحه». يُكمل أن «هناك مسالخ في المتن الجنوبي وشويفات تعوّض النقص، إنما لا أستبعد وجود مسالخ سرية. نحن مع إعادة فتح المسلخ».
في السياق نفسه، يبرز ملف مراكز التجميل إذ لم يُقفل العديد منها على الرغم من قرار أبو فاعور بإقفالها.
أبرز الأمثلة على ذلك هو مركز جاين نصار، يقول: «أغلقنا المركز في صيدا إنما في جمهورية بيروت المستقلة لم يُغلقه المحافظ». مجدداً، لماذا؟ «فلتسألوا محافظ بيروت». لكنه يؤكد أن عدداً كبيراً في جبل لبنان والبقاع والشوف جرى إغلاقه.
نموذجٌ واضح عن ضغوطات شبكة المصالح قدّمه النائب وليد جنبلاط بنفسه عندما غرّد على تويتر قائلاً: «أحد المطاعم المرموقة واسمه يبدأ بحرف الـ»ب»، استخدم نفوذه ولم تذكره أي وسيلة إعلامية»، لافتاً الى أنه «مطعم صفوة القوم، القشطة السياسية، والمجتمعية». تبيّن لاحقاً أن المطعم هو «BALTHUS». يوضح ابو فاعور أن اسم المطعم كان موجوداً على احدى اللوائح غير المطابقة التي أعلنت في 31 كانون الاول الماضي، الا انه «تبخّر» في وسائل الاعلام، ولم يأت احد على ذكره!
إذاً فشلت الحملة الى اليوم في زعزعة شبكة المصالح الكبرى، إذ أن الشبكة تملك من القوة ما يكفي من أجل تجييش وزراء ونواب وقضاة وضباط وإعلاميين من أجل الدفاع عنها، ما يجعل مهمة أبو فاعور (مهما كانت أهدافها) صعبة للغاية على الرغم من محاولاته المستمرة. إلا أن المحاسبة أيضاً، يجب أن تبدأ من داخل «البيت»، أي بموظفي وزارة الصحة، فتم توقيف 11 طبيب قضاء عن العمل وأحيلوا على القضاء، فيما أوقف 4 أطباء، وفق كلام الوزير.
يتحدث أبو فاعور عن الآلية التي تُتبع اليوم في ملف سلامة الغذاء والتي تبدأ بـ «مشروع سلامة الغذاء الذي أحيل على المجلس النيابي، والنيابة العامة الصحية التي سيُرسل الاقتراح بشأنها إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء. إضافة الى آلية التنسيق بين الوزارات بانتظار اقرارها في مجلس الوزراء». كذلك يلفت إلى أهمية «الدورات التدريبية التي تقوم بها غرفة التجارة والصناعة، ولوائح المواصفات للمؤسسات العاملة في المجال الغذائي إذ سنعلن قريباً لائحة مواصفات الملاحم»، ويؤكد ضرورة تشديد العقوبات في قانون حماية المستهلك.