للوصول إلى استعارة لتصوير من أين يمكن أن تنبثق الأزمة المقبلة في النظام المالي العالمي، استحضر لاري سامرز التحصينات الثابتة العقيمة التي بنتها فرنسا على طول حدودها الشرقية بين الحربين العالميتين لردع أي عدوان ووقف تقدم القوات الألمانية وانهاكها. «هناك خطر خط ماجينو»، وفق ما يقول سامرز، الذي كان حتى وقت قريب كبير المستشارين الاقتصاديين في ادارة الرئيس باراك أوباما، الذي يضيف «دفاعه كان في الواقع منيعا، لكن لم يكن من الصعب أبدا التحايل عليه والدوران حوله».
قد لا يكون لدى المصرفيين العمق التاريخي نفسه الذي يملكه سامرز، لكن من المؤكد أنهم وأثناء اختلاطهم بالمنظمين والسياسيين في دافوس خلال منتدى الاقتصاد العالمي، كانوا على أرضية أكثر صلابة من ذي قبل في اصرارهم على أنهم لن يكونوا مصدر المشكلة المقبلة. فالقواعد التي تطالب البنوك بالاحتفاظ برؤوس أموال أكبر وأصول سائلة ستبقي مؤسساتهم متماشية مع اللوائح الجديدة، وفق ما يقولون، وأقل ربحية من السابق.
وبدلا من ذلك أشاروا بأصابع الاتهام إلى «بنوك الظل»، ذلك العالم الغامض لكيانات سريعة النمو تشق طريقها عنوة إلى بعض أعمال البنوك واستطاعت حتى هذه اللحظة أن تتفادى مستوى التنظيم ذاته الذي فرض على البنوك.
إعادة النظر
يقول غاري كوهن، رئيس «غولدمان ساكس» «ان المخاطر هي المخاطر. وما يثير مخاوفي هو أن تنتقل المخاطر من القطاع المصرفي الخاضع للتنظيم والأكثر شفافية إلى قطاع أقل تنظيما وأكثر غموضا». ويتفق القيمون على الجهات التنظيمية مع هذا الرأي. هؤلاء المسؤولون الذين قضوا السنوات الثلاث الماضية في دعم البنوك وانقاذها أولا، ومن ثم تشديد القيود لاحتوائها، يجرون الآن فحصا دقيقا وواسعا للخطر الكبير المقبل.
وفي اجتماع ضمن مجلس الاستقرار المالي، يعمل مسؤولو التنظيم العالميون على تقرير حول كيف يمكن لمجموعة العشرين أن تعمل مجتمعة كاقتصادات كبرى للسيطرة وادارة قطاع بنوك الظل. كما يضع المجلس الفيدرالي للرقابة على الاستقرار في الولايات المتحدة قائمة بالمؤسسات غير المصرفية «النظامية» (أي تلك التي تهدد النظام المالي برمته) التي ستخضع للتدقيق وتشديد القيود.
وهو ما يطرح السؤالان التاليان: من هي بنوك الظل؟ وما هي المخاطر التي تشكلها؟ تعتبر الأجوبة على تينك السؤالين قاطعة لجوهر الجهود التي تبذل من أجل سلامة النظام المصرفي. فاذا لم يتعرف المنظمون على المخاطر الحقيقية التي تهدد الاستقرار، فان جهودهم وببساطة يمكن أن تنقل المخاطر إلى موقع آخر، لتهدىء من روع السياسيين والعموم وتكسب رضاهم. وقد كان التنظيم الخاطئ والمصرفيون الانتهازيون جميعهم سببا في اندلاع الأزمة الماضية، لذلك فان جولة جديدة من القواعد والنظم غير المدروسة قد تولد الأزمة المقبلة.
وقد تم تفسير ملاحظات كوهن على نطاق واسع على أنها اشارة مباشرة إلى صناديق التحوط وشركات الملكية الخاصة، وهي مؤسسات لادارة الاستثمارات دخلت في منافسة شرسة مع البنوك في بعض المجالات. وقد عمد بعضها إلى توظيف متداولين مختصين في تداول الأموال الخاصة للشركات والصناديق، وبدأت في تقديم القروض المالية مباشرة إلى الشركات وأصبحت من كبار المتداولين في السلع والسندات.
شبكة واسعة
غير أن كوهن والعديد من مسؤولي الجهات التنظيمية والمصرفيين يرسمون في واقع الأمر شبكة أكبر وأوسع نطاقا بكثير. فبالنسبة لهم، صناعة صناديق التحوط التي يبلغ حجمها 2000 مليار دولار ليست هي الجزء الأكبر من قطاع الظل الذي يقدر بنك نيويورك الاحتياطي الفدرالي قيمته عند 16000 مليار دولار. اذ يضم أيضا صناديق اسواق النقد وغرف المقاصة والأدوات المصممة لأغراض خاصة التي تملك سندات معقدة. ورغم أن حجمها بات أصغر من مستوى الذروة الذي سجلته عند 20 ألف مليار دولار في 2008، اي أن بنوك الظل لا تزال أكبر من قيمة أصول البنوك السليمة التي تبلغ 13 ألف مليار دولار.
ونتيجة لذلك، يعتقد المنظمون أن المؤسسات غير المصرفية أصبحت مصدرا أساسيا للائتمان، الذي يغذي الفقاعات في الأوقات الجيدة ويفاقم الاخفاقات عندما تسير الأمور على نحو سيئ.
بعض المؤسسات غير المصرفية يشارك أيضا فيما يسمى بـ«تحويل آجال الاستحقاق» فهي تسحب مع بعضها الأموال القصيرة الأجل وتستخدمها في استثمارات طويلة الأجل، ومنها على سبيل المثال الرهونات العقارية لأجل 30 عاما. وفي بعض الأحيان يحدث ذلك ضمن مؤسسة واحدة لكن يمكن أن يحدث أيضا في سلسلة طويلة تشمل كل شيء من سماسرة الرهن العقاري ومنتجي القروض إلى السندات وصناديق أسواق النقد والأدوات المصممة لأغراض خاصة التي تملكها. وكما يقول زولتان بوزار في بنك نيويورك الاحتياطي: «حتى يتسنى تحول المجاميع النقدية القصيرة الأجل إلى أوراق مالية وسندات طويلة الأجل لا بد من شيء بينهما، وهذا الشيء الوسيط بينهما هو نظام بنوك الظل».
ارتباط مع المصارف
وتشكل المؤسسات غير المصرفية خطرا أيضا عندما تصبح كبيرة جدا، ومرتبطة بالبنوك العادية بحيث يزعزع اخفاقها استقرار النظام بنطاقه الأوسع. وتعتبر هذه المشكلة خطرة على نحو خاص بالنسبة للمؤسسات التي تعتمد على الكثير من الأموال المقترضة، للدخول في مراهنات مضاربية. وقد قامت البنوك بكل ذلك بالفعل.
ومع تعلم دافعي الضرائب في الغرب الدرس من جيبهم الخاص، فانها يمكن أن تتعرض لخسائر مفاجئة في الثقة وانهيارات مفاجئة بسببها. ذلك الخطر كان السبب وراء توفير الحكومات لتأمين على الودائع في البنوك ومنفذ سهل إلى الأصول السائلة من خلال البنوك المركزية. وفي المقابل، تواجه البنوك عمليات تفتيش منتظمة ومتطلبات في رأس المال وغيرها من التنظيمات.
وكلما زاد عمل المؤسسات غير المصرفية وتصرفها مثل البنوك، أو الاقتراض بشكل كبير من البنوك، زاد خطرها على الاقتصاد الأوسع نطاقا. وكما حذر فيكرام بانديت، الرئيس التنفيذي لسيتي غروب قائلا «ان نقل المخاطر إلى قطاعات لا تخضع للتنظيم أو منظمة بصورة مختلفة لن يجعل النظام المصرفي أكثر أمانا. بل على العكس، قد يزداد في الواقع الخطر الشامل في النظام».
أنواع مختلفة
وتتباين الآراء على نطاق واسع بشأن الأنواع المختلفة لبنوك الظل والمخاطر التي تشكلها. فاولئك الذين يخشون صناديق التحوط يشيرون إلى مؤسسات مثل بريفان هوارد، مؤسسة ادارة الأصول البعيدة عن الأضواء التي تهيمن على أسواق لندن للسندات. بريفان، التي تتخذ من المقر الرئيسي السابق لمتاجر البيع بالتجزئة ماركس آند سبنسر مقرا لها، هي شركة لم يسبق للكثيرين أن سمعوا عنها. ورغم أنها تدير أصولا قوامها 36 مليار دولار، وهو جزء يسير مما تديره مؤسسات عملاقة ومشهورة مثل بيمكو، الا أنها واحدة من أهم الشركات التي تتداول في العائد الثابت في العالم، وتهمين على استخدام عقود بعينها، وفق ما يقول الوسطاء. اذ لم يطلق اسم مستر بوند على مؤسسها الملياردير آلان هوارد في قاعات التداول في لندن من فراغ.
بداية، يستاء الكثير من صناديق التحوط من فكرة أنها جزء من نظام «ظل» يتهرب من التنظيم. فصناديق التحوط في بريطانيا قدمت تقارير تحمل معلومات حول محافظها الاستثمارية إلى هيئة الخدمات المالية لسنوات عديدة. كما سن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أخيراً متطلبات صارمة تضمن الشفافية. فكما يقول ريتشارد بيكر، رئيس اتحاد ادارة الصناديق، وهو الاتحاد الرئيسي للصناعة «ان صناديق التحوط تخضع للتنظيم. ونحن لم نتسبب بالأزمة المالية كما أننا لم نأخذ أموال دعم حكومية».
الملكية الخاصة
بعض المنظمين والمصرفيين يشعرون بالقلق أيضا من مجموعات الملكية الخاصة، اذ تتنوع أنشطة وأعمال المجموعات الأميركية الكبيرة بين تداول الدين وأنشطة صناديق التحوط وتفريخ صناديق من صناديق. فكما يقول رئيس تنفيذي لأحد البنوك الأميركية الكبيرة «هناك بعض صناديق الملكية الخاصة وصناديق التحوط التي لديها دفاتر قروض أكبر من بنوك وول ستريت. فاذا ما ركزت الأجهزة التنظيمية على البنوك فقط، سنشهد انتقالا في الأعمال».
لكن الصناعة تقول إنها محمية من الانسحابات الجماعية للأموال أو البيع بأسعار متدنية للغاية، لأن معظم أموالها تأتي من مؤسسات استثمارية تعتمد نهجا بعيد المدى يصل إلى نحو 10 سنوات. اذ يقول دوغلاس لوينشتاين، رئيس مجلس برايفيت ايكويتي غروث كابيتال، الذي يمثل كبرى مجموعات الشراء الممول بالدين في الولايات المتحدة «تفتقر شركات الملكية الخاصة إلى النطاق والترابط والاعتماد على التمويل القصير الأجل والأهم من كل ذلك دعم دافعي الضرائب الذي يميز المؤسسات ذات الأهمية النظامية».
حتى وان كانت معظم صناديق التحوط وشركات الملكية الخاصة لا تشكل خطرا كبيرا بحد ذاتها، فان بعض المصرفيين والمنظمين يشعرون بالقلق من أن المشاكل في تلك القطاعات قد يكون لها تأثير الضربة القاضية. ففي أثناء الأزمة المالية، تكبدت بنوك مثل سيتي غروب خسائر قوامها مليارات الدولارات على شكل قروض مقدمة إلى مجموعات الملكية الخاصة. فكما يقول فيليب هيلديبراند، رئيس سويسرا الوطني، بنك بيرن المركزي «الرابط بين النظام المصرفي ونظام بنوك الظل سيكون حاسما».
خطر المنافسة
قادة وول ستريت يشعرون بالقلق بشكل خاص ازاء خطر المنافسة الذي يشكله سماسرة الشركات الوسيطة مرتكزات في تداول المشتقات خارج السوق الرسمي، وصناديق السلع. وكان المسؤولون في الجهاز التنظيمي الفرنسي انتقدوا على الملأ صناديق السلع التي تستخدم المشتقات لوضع رهانات كبيرة نسبة إلى حجم رأسمالها الأساسي. وكما يقولون، فان عجزا كبيرا اذا ما حدث قد يزعزع السوق بنطاقها الواسع.
كما تشكل عمليات عجز كبيرة مخاوف لدى غرف المقاصة. ويتمتع عملها الذي ينطوي على جمع الأموال من المشاركين في السوق لاستخدامها في حال تعثر طرف أو أكثر، بسجل جيد، حيث لم يسجل سوى عدد قليل جدا من حالات التعثر منذ أكثر من عقد. لكن المخاطر توشك أن تزداد مع بدء الحاح القوانين الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة على تسوية المشتقات التي تتداول خارج السوق الرسمي من خلال العاملين في المقاصة.
ويأمل المنظمون أن يساعد وضع المشتقات التي تتداول خارج البورصات من خلال المقاصة على حماية النظام ضد تأثير أي انهيار كارثي آخر كما حدث مع ليمان براذرز في 2008. لكن ذلك يعني أنه سوف يتعين على العاملين في المقاصة أن يتعاطوا مع حجم كبير جدا من التداولات. ولا يوجد نظام تنظيمي عالمي لشركات المقاصة، كما أن دراسة لمفوضية الاتحاد الأوروبي أظهرت أن 13 شركة مقاصة أوروبية تتعامل مع كميات مختلفة وبصورة كبيرة من رأس المال، تتراوح ما بين ملايين اليورو في حالة واحدة إلى 29 ألف يورو فقط في حالة أخرى.
صناديق النقد
وتقدم صناعة صناديق أسواق النقد في الولايات المتحدة وقوامها 2800 مليار دولار، التي توفر جانبا كبيرا من السيولة الكامنة من خلال شراء الأوراق التجارية وغيرها من الدين القصير الأجل، الدعم للكثير من بنوك الظل.
وفي أثناء الأزمة، تعرض الكثير من صناديق أسواق النقد لمشاكل بسبب السندات المعقدة التي اشترتها سعيا وراء عائدات مرتفعة، حتى وهي تعد المستثمرين فيها بالوصول الفوري والسريع إلى أموالهم. وحين انسحب الزبائن بعد انهيار ليمان، أرغمت الصناديق على التخارج من استثمارات لتلبية الاستردادات، الأمر الذي قوض أسعار الأصول وأدى بالتالي إلى اغلاق سوق الأوراق التجارية. كما بثت الأزمة الرعب في نفوس المستثمرين الأفراد الذين يعتمدون على أسواق النقد في المدخرات القصيرة الأجل.
وتطلب حاليا الأجهزة التنظيمية الأميركية من الصناديق الاحتفاظ بمزيد من السيولة والأصول التي يسهل بيعها لتلبية الاستردادات، وتبحث في انشاء نظام للتأمين. لكن كثيرين يعتقدون أن القطاع لا يزال يكافح للتعامل مع حالة من الذعر كبيرة.
ويقول بيتر كرين، رئيس مؤسسة كرين داتا « يبدو أن ما لا يريد أحد أن يقر به، هو أن هناك طريقة واحدة فقط لايقاف نظام يشغل في وقت واحد، وعلى نطاق واسع، وتتمثل في التدخل الحكومي».
وبفضل قانون دود- فرانك الذي اقر العام الماضي، أصبح لدى الأجهزة التنظيمية في الولايات المتحدة سلطات وصلاحيات لمعالجة المشكلة تفوق تلك التي كانت بحوزتهم قبل الأزمة. واذا كانوا يخشون تعرض صندوق تحوط كبير، أو صندوق للسلع لخطر الانهيار، فبمقدورهم تجميد عملياتها بين عشية وضحاها. فكما يقول مصرفي كبير في وول ستريت «هذا فارق في غاية الأهمية».
ولكن أيا من هذه الاصلاحات لا تعالج بشكل كامل، هذه المشكلة ذات الطبيعة المتعددة. فالتاريخ يظهر أن النشاط سيظل دائما يتدفق على القطاع الذي لا يخضع لكثير من التنظيم، ويخشى المراقبون من أن تنظيم بعض مؤسسات الظل سيدفع بالعمليات المحفوفة بالمخاطر إلى مزيد من مناطق الظلمة. وكما أن القواعد القديمة لرأس المال ولدت قطاع الظل الحالي، فان الجولة الأخيرة التي تعرف ببازل III يمكن أن تفرز مشاركين جدد غامضين.
وكما وصفها باري ويلكينسون من شركة أوليفر وايمان للاستشارات «لا يزال هناك مخاطر أخلاقية كامنة في سلسلة لاعبين، لا يريد أحد أن يتحمل المسؤولية عن السلسلة برمتها».
أهداف مشروعة وغير مشروعة
يقول المنظمون إنه من المهم التمييز بين بنوك الظل التي تخدم أهدافا مشروعة وقانونية، وتلك الموجودة لاستغلال ثغرات في التنظيم. فالأولى تضم بعض مؤسسات الاقراض المتخصصة فضلا عن غرف المقاصة التي تعمل على تسوية أنشطة التداول في البورصات، باستخدام الضمانات ورؤوس الأموال لضمان أن صفقات البائعين والمشترين مضمونة حتى وان تعثر أحد الأطراف. أما الفئة الأخرى موضع الشك، فتضم الأدوات خارج الميزانية التي أسسها كثير من البنوك قبل الأزمة المالية، لتجنب تخصيص رؤوس أموال مقابل السندات والأوراق المالية المعقدة. وعندما تعثرت القروض العقارية الأساسية، تركت البنوك محملة بتلك الأدوات.