إكس خبر- ليس هواء لبنان أفضل من هواء باريس اللطيف، وليس قصر قريطم أكثر فخامة من أيّ قصرٍ سعودي، وليس الأمن الذاتي في لبنان أكثر تماسكًا من الشعور بحريّة التزلّج على جبال الألب بلا مرافقين أو تناول أشهى التمريات بلا هواجس في أحد “مولات” المملكة. في الظاهر، اختار سعد الحريري ترك كلّ مغريات المنفى والعودة الى “وجعة الرأس” ولكن في الحقيقة ليس في باريس والسعودية جسمٌ سنيٌّ يفتقد رأسه، ولا موجات تشدديّة تسرق منه قاعدته، ولا سراي ينتظر عودته الى موقعه الطبيعي، ولا وجوهٌ تحاول أن تكون سعد الحريري على طريقتها… بسبب كل تلك التطوّرات التي فاتته طوال ثلاث سنوات وأربعة أشهر الحريري “مطوّل هون”.
حتمًا لن تكرر 8 آذار خطأ إسقاط سعد الحريري في الشارع كما فعلت في 13 حزيران 2011. وحتمًا لن يتجرأ العماد ميشال عون على ترداد عبارةOne Way Ticket مجدداً وهو الذي أصبح في الآونة الأخيرة من دعاة عودة الحريري “المعتدل” الى ساحةٍ سنيّة تغلي “بالتشدد”، وحتى قبل ذلك يوم فتح له قلبه ومزّقا معاً كتابيْهما الشهيريْن وأطلقا قطار الحديث عن تسويةٍ رئاسيّة مرجوّة.
عاد محمّلاً… لا حاملاً
اليوم سيرتاح الحريري من عناء السفر والقُبل والعناقات والاتصالات والزيارات واللقاءات. لن يحتاج الى الاختلاء بنفسه وهو الذي فعل ذلك ثلاث سنوات ونيفاً. كلّ ما سيحتاجه إعادة تنظيم أفكاره ليقول ما جاء ليقوله أو لينقل ما جاء لينقله. في الأمس عاد الرجل محمّلاً لا حاملاً. عاد محمّلاً بهبةٍ سعوديةٍ كانت بمثابة ذريعةٍ ذكيّة من المملكة تمهيداً لعودته. عاد محمّلاً بأحلامٍ جديدة لا تجد ترجماتها إلا في سراياه وسرايا الوالد الشهيد. عاد محمّلاً بمواقف أكثر ليونةً تجاه حزب الله. عاد محمّلاً بغضبٍ على من أربكه بمواقف متناقضة مع مواقفه في المفاصل الحسّاسة وهو ما سيدفعه على ما علمت “صدى البلد” الى فتح دفاتر الحساب بعد التنهّد وإرساء تنفيسةٍ في الشارع السنّي. عاد محملاً ببراعم تسوية سرعان ما بدأت سيناريوهاتها تسري في الكواليس السياسيّة. يعلم الرجل أن المسؤوليات الملقاة على عاتقه كثيرة وخطيرة ولكن ليست أكثر خطورةً من فورة “السنيّة التكفيريّة”. كلُّ أمرٍ يمكن أن ينتظر، حتى الرئاسة والبرلمان، إلا ما استقدِم الشيخ سعد من أجله… استُقدِم لا قدِم لأن أيّ عودةٍ لم تكن لتتحقّق لو لم يحصل الرجل على ضماناتٍ لأمنه، قدّمها أغلب الظنّ حزب الله من جهته وقال له بصريح العبارة: نحن مضمونون ولكن أنتَ تولَّ أمر من يكفّرك كما يكفّرني ويستهدفك كما يستهدفني”.
ليس من باب الصدفة…
طبخها الرئيس نبيه برّي والنائب وليد جنبلاط برويةٍ ودهاء. كلّ شيء بدا مجهّزاً لمثل هذه العودة. حتى سجادات السراي، الأمين العام سهيل بوجي، ربطة عنق الرئيس سلام، العاملون هناك. مخطئٌ من يظنّ أن حكاية الرجوع لم تكن متداولة في بيت الوسط ومُحاطة بتكتمٍ شديد حفاظاً على أمن الحريري شأنها شأن تنقلاته غير المُجدولة. كلّ العناصر التي سبقت العودة تشي بأن عدداً لا يُستهان به من الحلفاء كما خصوم الأمس كان “في الجوّ”. فليس صدفةً أن تأتي الهبة السعودية للجيش اللبناني قبل ساعاتٍ من ظهور الرئيس الحريري المفاجئ في باحة السراي؛ وليس صدفةً أن توجّه واشنطن ضرباتٍ جويةً للدولة الإسلامية في العراق بعدما كان البيت الأبيض استبعد ليلاً مثل هذا التدخّل وكأني بالولايات المتحدة أرادت أن ترحّب هي الأخرى بعودة “نهج الاعتدال” الى لبنان على طريقتها؛ وليس صدفةً أن يتراجع النائب محمّد كبارة عن خطابه التحريضي منذ أيامٍ في تصريحٍ تبريريٍّ-توضيحي؛ وليس صدفةً أن يزور جنبلاط في أقلّ من أسبوع السيد حسن نصرالله والرئيس نبيه بري والعماد ميشال عون لتتسرّب معلوماتٌ في خلاصة اللقاءات الثلاثة عن إمكانية ولادة تسويةٍ يباركها “المستقبل” قريباً؛ وليس صدفة أن يعود قبل يومين من انتخابٍ مفتٍ جديدٍ للجمهورية.
عودة مسؤولة… ومكفولة
هي عودةٌ مسؤولة غير واضحة مكانياً وزمانياً بعد. فالحريري يحتاح الى بعض الوقت ليلتقط أنفاسه في لبنان وليعتاد على ترؤّس كتلته التي لم تغيّب يومًا احتمال عودته الدائمة تمامًا كما لم تجرؤ على التفكير في أنه قد يطلّ عليها اليوم أو غداً واضعاً حداً لشتاتها الداخلي وتململها من كثرة الرؤوس والنهوج. وتشير مصادر بيت الوسط لـ”صدى البلد” في معرض تعليقها المقتضب على العودة الى أن “الرئيس الحريري اختار توقيتاً مناسباً ركوناً الى حساسيّة الوضع الداخلي وطفرة الحركات الأصولية وأتى ليثبت أنه هو من يمثّل نهج الاعتدال السني في لبنان وأن أحداً لا يمكنه أن يحلّ مكانه في قلوب أبناء الشهيد رفيق الحريري. ولعلّ مفاعيل هذه العودة ستتجلى قريباً في حالةٍ من التنفيس يُفترض أن تسود البلاد خصوصًا بعد الهبة السعودية من جهةٍ وتعليق الآمال عليه في تحريك ملفي الانتخابات الرئاسيّة والبرلمانية من جهةٍ أخرى ولكن ليس وحده”. هنا يتوقف كلام الوزراء والنواب المستقبليين، فلا معلومات عن فترة بقاء الحريري، ولا كلام على أي تسويةٍ جاهزةٍ يخبئها الرجل في أمتعته الكثيرة التي تشي ببقائه مطولاً. كلّ ما في الأمر أنه عاد ويحتاج الى فترة راحة قبل أن ينطلق في مساعيه سريعاً لأن قصر بعبدا ولبنان لم يعودا يحتملان الشغور ولأن الاستحقاق البرلماني بات على مسافة أيامٍ من ساحة النجمة. عدا ذلك، استشعر الحريري خطر سرقة قاعدته، تلك القاعدة التي كانت عازمةً على عدم منحه ثقتها في الانتخابات المقبلة هي نفسها تلك التي نزلت الى الشارع تحتفل بمن كانت تنتظر إيابه وتعاتبه على قدر المحبّة. تلك القاعدة التي لم تجد نفسها في أيّ تيار سنّي أو موجة سنيّة أخرى هي نفسها التي لم تلمح في أيٍّ من أبناء التيار وصقوره وجه سعد الحريري، ابن الشهيد الكبير.
سيقول لهم: الأصيل عاد
في الأمس عاد الحريري زائراً الى سراي دخله مرتين في غضون ساعات، وغداً قد يؤمّه رئيساً ويدخله عشرات المرات في غضون ساعات. فكلما أطلّ سعد الحريري بهذه الثقة يعرف الجميع أنه يحمل حلاً وإن لم يعترف به أو يُفصِح عنه، وهذه المرة يعود أغلب الظنّ مشبعاً بحلول قرأتها المختارة فدفعت بوزيرها الشاب الى الحديث عن تباشير حلّ للأزمة الرئاسية، وقرأتها الرابية فدفعت بعمادها الى إعلان حالة الاستفنار النيابية قبل الرئاسية. ببساطةٍ يبدو أن حكاية الرئاسة لم تعد “مطوّلة” بقدر ما سعد الحريري “مطوّل”. فالرجل ابن أصول ويعلم أن “اليد الفاضية مجويّة” وهو لم يأتِ حتمًا لقضاء فترة نقاهة في عرسال أو في باب التبانة أو ليزيد الطين بلّة، بل حضر ليسوّي ما خربه الغياب وليصفع كلّ من عاش “نشوة” أن يكون “سعد مزيفاً” ويقول لهم: “الأصيل عاد ليثبت وجوده أولاً، ليعيد هيكلة تياره المتهاوي سياسياً وشعبياً ثانياً وليضع حداً لمهزلة 14 آذار ثالثاً… كلّ تلك الهموم الداخلية تأتي في مرحلةٍ ثانية بعد الانتهاء من الملفات الحساسة. ورغم أن الرجل أكد من بيت الوسط أن عودته غير مرتبطة بالملف الرئاسي، ولكن ذلك لا يعني أنه غير معني بأي تسويةٍ سيفرضها رجوعه تلقائياً. ذاك الموقف لم يكن كفيلاً بقطع الطريق على السيناريوهات التحليلية وأبرزها “السيناريو الكليشيه” الذي يتحدث عن عودة الحريري الى السراي وبقاء بري في البرلمان مقابل دخول عون قصر بعبدا الشاغر بقدمه اليُمنى.
هذه هي البداية فحسب…
إذاً الحريري هنا. وسواء صدق هو بعدم ربطه بين عودته والرئاسة أم صدق المغرّد السعودي الشهير “مجتهد” بربطه الرجوع بتفاهمٍ أمني مع حزب الله، الأكيد أن أمام الشيخ سعد مهام شاقة يبدو أكثرها سهولة على صعوبته استعادة موقعه الاعتدالي في الشارع السني… هذه هي البداية فحسب.