اكس خبر- الأزمة السياسية الصامتة التي أخرجت وزير الدفاع الاميركي تشاك هاغل من الحكم لم تكن سوى نموذج آخر لتسلط الرئيس باراك اوباما على أحكام أفراد ادارته. ففي مطلع الشهر الماضي صدر في الولايات المتحدة كتاب بعنوان: «القتل الذي يستحق قتالنا»، برر فيه وزير الدفاع السابق، ليون بانيتا، استقالته من الادارة بسبب خلافه مع الرئيس حول توقيت انسحاب القوات من العراق.
واعترف بانيتا بأن وكيلة وزارة الدفاع ميشال فلورنوي، حاولت أن تقدم مقترحات العسكريين بطريقة مقنعة يرضى عنها الرئيس. ولكنها فشلت في زحزحته عن عناده، مثلما فشل زميلها اشتون كارتر أيضاً. واللافت أن فلورنوي وكارتر هما المرشحان الأوفر حظاً لخلافة هاغل، الأمر الذي ينبئ باستمرار الخلاف بين اوباما ومجلس القيادة المشتركة. ويُعرب الوزير بانيتا عن أسفه، لأن نصائح العسكريين قوبلت بالاهمال والتجاهل من رئيس فضّل الاصغاء الى ادعاءات نوري المالكي وتبجّحاته السقيمة.
ويقول اياد علاوي إن المخصصات الضخمة لم تُترجَم الى قوة ردع مسلحة بسبب عمليات النهب المبرمَج، واستشراء الفساد بين جماعة المالكي. وهكذا دخل «داعش» الى العراق بسهولة فائقة، دخول سكاكينه الحادة في أعناق جنود المالكي وحلفائهم.
أثناء عرضها لأسباب استقالة وزير الدفاع تشاك هاغل، حرصت صحيفة «نيويورك تايمز» على نشر جزء من وقائع جلسات الخلاف مع الرئيس اوباما حول السياسة المتّبعة في الشرق الأوسط. والثابت أن الخسارة الجسيمة التي مُني بها الحزب الديموقراطي الحاكم في الانتخابات النصفية شجعت اوباما على اختيار ضحية من ادارته يقدمها وقوداً لتهدئة أنصاره ومحازبيه. ووقع اختياره على المشاغب الأول في ادارته تشاك هاغل.
وتؤكد الصحف الاميركية أن الاستقالة – أو الاقالة – كانت حصيلة مناقشات حامية بين الرئيس ووزير دفاعه، خصوصاً عقب الكشف عن الرسالة السرية التي وجهها اوباما الى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. وهي رسالة بالغة الخطورة تحمل بين طياتها أهدافاً مثيرة للقلق، على ما وصفتها جريدة «وول ستريت جورنال.» وقد تعمّد الرئيس إخفاءها عن أعضاء ادارته لاقتناعه بأنهم لا يوافقون عليها، خصوصاً أنها تتعهد بضمان استمرار حليف ايران في سورية الرئيس بشار الأسد. كما تتعهد، من جهة أخرى، بالتعاون العسكري ضد «داعش» شرط توصل ايران الى اتفاق نووي شامل.
وقد تزامن موعد الكشف عن رسالة اوباما مع موعد سفر نائبه جو بايدن الى انقرة، بغية الاتفاق مع الرئيس رجب طيب اردوغان على تدريب ألفي مقاتل من المعارضة السورية «المعتدلة.» وقد أيدت تركيا فكرة قيام معسكر للتدريب ضمن إطار استراتيجية اميركية داعمة للمعارضة السورية التي تحارب النظام السوري وتنظيم «داعش».
اللقاء الأول بين جو بايدن والمسؤولين الأتراك لم يكن ودياً بسبب الانتقادات اللاذعة التي وجهها نائب الرئيس الاميركي الى أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود اوغلو. ذلك أنه اتهمهما علناً بتأمين طرق المرور لمقاتلي «داعش» الذين تقاطروا الى تركيا بهدف الانتقال الى سورية والعراق. وكانت الغاية من وراء تلك التسهيلات اللوجستية تأمين بيئة حاضنة لقيام مشروع دولة سنيّة تنافس دولة نوري المالكي الشيعية.
وحرص اوغلو خلال تلك الزيارة، على إطلاع بايدن على هدفَيْن أساسيين تطمح بلاده الى تحقيقهما: الأول – إقامة نظام سياسي جديد في العراق يحرر السنّة من التبعية المذهبية التي يفرضها المالكي على الطوائف الأخرى. الثاني – استعجال إسقاط بشار الأسد، لأن عملية ضرب «داعش» في سورية، بواسطة الطائرات الاميركية والحليفة، تؤمن للنظام الغطاء الذي يمنع قيام منطقة عازلة داخل سورية. وهذا معناه استمرار تدفق النازحين السوريين الذين زاد عددهم في تركيا على المليونَيْن، ومثلهم في لبنان، ومثلهم في الأردن، ناهيك عن ملايين المهجرين داخل سورية.
وحدث خلال الجلسات الأخيرة التي عقدها اوباما مع أعضاء حكومته، أن سأله وزير الدفاع هاغل عن حقيقة الرسالة التي بعث بها الى خامنئي. وأجاب الرئيس بالإيجاب، لأن خامنئي في نظره هو الشخصية النافذة التي ستتخذ القرار النهائي حول برنامج ايران النووي. ووصف الرئيس الايراني حسن روحاني بأنه إنسان ودود، وصاحب ابتسامة دائمة، ولكنه لا يتمتع بسلطة الحسم حيال القوى المعارِضة مثل «الحرس الثوري» و «فيلق القدس».
وعندما وصل النقاش الى موضوع المقارنة بين السياسة التي مورست في العراق وسورية، دافع الرئيس عن موقفه بالقول: كانت الغاية إشعار طهران بأن واشنطن حريصة على عدم المسّ بصديقها بشار الأسد. وأنها مستعدة لاستبعاد حلفائها العرب، زائد المعارضة السورية، إذا كان الثمن يؤدي الى الحصول على توقيع اتفاق نووي! وسأله وزير الدفاع: وماذا تجني الولايات المتحدة من وراء كل هذه التنازلات؟ أجاب اوباما: تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، في حال أعدنا الاعتبار الى ايران، وتعاملنا معها كشريك مُحتَمَل في العراق وسورية.
ويبدو أن إثارة الموضوع من هذه الزاوية فتح أمام الوزراء باب النقاش على مصراعيه، الأمر الذي أغاظ الرئيس ودفعه الى اتخاذ القرار بضرورة إبعاد وزير الدفاع هاغل.
ففي تلك الجلسة الصاخبة أعيدَ التذكير بالموقف الذي اتخذه اوباما ضد نوري المالكي بعد اعتباره المشجع الأساسي لظهور «داعش» في العراق وسورية. ففي أيامه انفجرت فضيحة صفقة الأسلحة الروسية المقدَّر ثمنها بأربعة بلايين ونصف البليون دولار… والتي أظهرت التحقيقات أن مخصصاتها اختفت في جيوب الفاسدين والمرتَشين. والشاهد على ذلك سقوط خط الدفاع الأول في الموصل بسبب حاجة الجيش الى الأسلحة والذخيرة.
وتعترف القيادة الاميركية المشتركة بأن الولايات المتحدة صرفت، خلال السنوات العشر الماضية، أكثر من 25 بليون دولار بغرض تأمين أجهزة ضرورية للجيش العراقي. ثم أظهرت التحقيقات أن تلك الأجهزة لم تُستَخدَم أثناء عمليات التصدي لهجمات «داعش».
لهذه الأسباب وسواها، اقترح الرئيس اوباما إزاحة نوري المالكي من رئاسة الحكومة كإجراء قانوني لمعاقبته على إهماله أو مشاركته في عمليات النصب والاحتيال. وقد تجاوبت القيادة الايرانية مع هذا الطلب، علماً أن خلفه ما زال ينتمي الى الحزب ذاته.
والمؤكد أن تعهّد اوباما بعدم المسّ بسلطة بشار الأسد قد شجع الحزب الجمهوري على اتهامه باستخدام معيارَيْن، والانحياز الى الطرف السوري. علماً أن الأسد ساهم في أنتصار «داعش» عندما استثناها من ضربات البراميل المتفجرة، وغضّ النظر عن تجاوزاتها ضد «جبهة النصرة».
وبسبب حساباته الخاطئة، أصبح «داعش» أقوى جبهة معارضة لنظام الأسد. ذلك أن هذا التنظيم يفرض سيطرته على المناطق الشرقية من مدينة حلب، ثاني أكبر المدن بعد دمشق. كما تمتد سلطته الى الريف الشرقي لمحافظة حلب، بالإضافة الى مدن كثيرة مثل: معرّة النعمان وجسر الشغور وأعزاز، والمناطق المتاخمة لتركيا. في حين تتقاسم «جبهة النصرة» و «الجيش الحر» السيطرة على مناطق شاسعة في ريف حمص وهضبة الجولان ومدينة القنيطرة وريف درعا وريف دمشق والمناطق المحاذية للحدود اللبنانية.
حيال تلك التجمعات المسلحة، حاول نظام الأسد تعزيز مواقعه في المدن والقرى المحيطة بدمشق واللاذقية وطرطوس وحماة وحمص كما يسعى الى إبعاد «داعش» عن مطاري الحسكة ودير الزور.
مصادر الكونغرس تشير في هذا السياق الى الضغوط التي مارسها اللوبي الاسرائيلي ضد ادارة اوباما من أجل إبعاد وزير الدفاع تشاك هاغل… والحؤول دون وصول «داعش» أو «جبهة النصرة» الى الحكم في سورية. وذكِر في حينه أن اسرائيل بَنت تحفظها على مهمة وزير الدفاع الذي صرّح، قبل تعيينه، بأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة شرط للتسوية السلمية في المنطقة. وبعد تزايد حدة الحملة السياسية ضده، تراجع عن موقفه السابق، وادّعى أنه يلتزم سياسة الادارة التي يشترك فيها.
أما بالنسبة الى محاولة تغيير رأس النظام في سورية، فإن المعركة التي شنتها «جبهة النصرة» في الجولان ذكّرت اسرائيل بأن دمشق الأسد حافظت على شروط اتفاق فك الاشتباك منذ سنة 1974، أي منذ وقّع هنري كيسنجر الاتفاق قبل نحو أربعين سنة. ولهذا السبب، فإن مصالح اسرائيل الأمنية ترتاح الى وجود الأسد على رأس الحكم في سورية. من هنا القول إن العبارة التي ظهرت في رسالة اوباما الى علي خامنئي لم تكن رسالة تطمين الى ايران بمقدار ما كانت رسالة تطمين الى اسرائيل!
يقول الجمهوريون إن سياسة اوباما الخارجية حملت بذور هلاكها منذ إعلان الرئيس الديموقراطي إنهاء الحروب التي افتعلها جورج بوش الابن في العراق وأفغانستان. أو منذ اتخذ قراره بسحب القوات الاميركية من كل المواقع الساخنة. ويفسر المحللون هذه السياسة المرتجلة بأنها ردود فعل من أول رئيس اميركي أسود، أراد تدشين سياسة خارجية تناقض سلوك الرؤساء البيض. ووفق تصوره، فإن الحروب التي خاضتها قوات الولايات المتحدة كانت من صنع مؤسسات الرجل الأبيض الذي يهمه جني المكاسب والأرباح التي تؤمّنها له مصانع الأسلحة. أي أنه حاول اجتراح حل عنصري لإنهاء الحروب العنصرية.
ولكنه سرعان ما اكتشف أن ايران كانت أول دولة توظف الفراغ الذي أحدثه غياب الحضور الاميركي المسلح لنشر امبراطوريتها على امتداد العالم العربي. كما اكتشف الحزب الديموقراطي أن زرع الموظفين السود في غالبية مؤسسات الدولة قد ساعد على إيقاظ المنظمات العنصرية مثل «كلو كلاكس كلان» وسواها. وبسبب سوء التقدير، والخلل الذي أحدثه تغييب أكبر دولة في العالم عن ساحات النزاع، انتهى سود الولايات المتحدة هذا الأسبوع الى إحراق عشرين بناية في مدينة فيرغسون بسبب مقتل شاب أسود على يدي شرطي أبيض.
ويتوقع المحللون أن تكون السنوات الثماني التي حكم فيها باراك اوباما مجرد فترة انتقالية لاختبار سياسة مشوّشة قد لا تسمح بتكرار انتخاب رئيس أسود مرة أخرى…
سليم نصار