على متن يخت فاره يعج بالجميلات على شاطئ الريفيرا الفرنسي الساحر، كان الصحفي الفرنسي جون أوك على موعد مع مقاطعة جادة بنكهة سينمائية لعطلته، حين تقدم نحوه فجأة رجل متوسط العمر ذو ملامح صارمة، وبخطوات رسمية مميزة، قبل أن يمد يده لمصافحته بلا مقدمات كثيرة، مسارعا للتعريف بنفسه مباشرة وبنفس السلوك الجاد: اسمي عاموس، إسرائيلي، ولدينا طيار مختطف منذ ثلاث سنوات يدعى “رون عراد”، ونحن نعتقد أن الرجل الذي توسط لتحريرك سابقا يمكنه أن يساعدنا.
كان جون أوك نفسه، أو بيار بودري كما يعرفه الإسرائيليون باسم مستعار استخدمه لتغطية حرب الخليج الثانية لاحقا لصالح صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية وعدة صحف أخرى، قد تم اختطافه من قبل حزب الله اللبناني عام 1987 أثناء أزمة الرهائن الشهيرة في لبنان، حين اختطف عدد من الجماعات المسلحة 121 رهينة أجنبية في البلاد على مدار قرابة عقد من الزمان.
وبعد مرور أكثر من عام،391 يوما بشكل أدق، قضاها جون في قبضة المسلحين تم الإفراج عنه بعد تدخل دبلوماسي لفريق فرنسي قاده ضابط الاستخبارات السابق ذائع الصيت جان تشالز مارشياني، بتكليف من رئيس الوزراء آنذاك جاك شيراك ووزير داخليته شارلز باسكوا، بينما تكشف في وقت لاحق أن رجل الظل ومحرك العرائس والفاعل الرئيسي في هذه المفاوضات الذي يسعى الإسرائيليون إلى وساطته كان شخصا مختلفا تماما، لم يلعب أي دور رسمي في المفاوضات، ولا ينتمي إلى عالم السياسة بحال، عرفه الجميع آنذاك باسم “ساندي”، بينما نعرفه الآن باسمه الحقيقي “إسكندر صفا”.
وقعت تفاصيل تلك الأحداث خلال عام 1987 وانتهت رسميا في مايو/أيار من العام التالي 1988 بإعلان الحكومة الفرنسية أنها قادت جهود وساطة ناجحة بقيادة مارشياني للإفراج عن خمسة دبلوماسيين وصحافيين فرنسيين تم احتجازهم في لبنان من قبل حزب الله. ولما لم تعلن الحكومة الفرنسية أي تفاصيل حول عملية استخدمتها لتعزيز شعبيتها قبيل الانتخابات، دفع ذلك الصحافة الفرنسية للتكهن بأن الحكومة قامت بدفع فدية للإفراج عن مواطنيها، رغم إصرار شيراك على النفي.
كعادة تلك الأحداث، خفت الصخب سريعا بعد ضجة، وذهبت القضية إلى غياهب النسيان، غير أنها لم تلبث طويلا قبل أن تعود إلى دائرة الضوء مع اهتمام أكبر وتركيز أشد بعد ثلاث سنوات كاملة، حين رصدت(2) الأجهزة الرقابية الفرنسية سلسلة من التحويلات المالية المشبوهة بقيمة إجمالية وصلت ملايين الدولارات من حساب سويسري باسم صفا إلى حسابه الشخصي في فرع بنك كريدي كوميرشيال دي فرانس في الشانزليزيه، حيث تم سحبها من قبل سكرتيره الخاص وتسليم بعضها في أظرف خاصة لمسؤولين فرنسيين مقربين من وزير الداخلية باسكوا، وعلى رأسهم مارشياني نفسه وزوجته كريستين.
مثلت تلك التحويلات أول دليل رسمي على ضلوع صفا في صفقة الرهائن، دافعة باسم رجل الأعمال الفرنسي اللبناني، الذي طالما اعتاد العمل في الظل، إلى عالم الأضواء الذي يكرهه، مع كثير من الشبهات حول صفقة سرية قاد بموجبها صفا المفاوضات نيابة عن الحكومة الفرنسية، مقابل مبالغ مالية طائلة تم دفع بعضها لتمويل الصفقة، حصل صفا على بعضها، وقام بتحويل بعضها الآخر إلى شركائه من المسؤولين الحكوميين.
كان الضجيج والشبهات كفيلين بدفع صفا للخروج عن صمته والحديث إلى وسائل الإعلام ليضع نهاية للتكهنات، وليؤكد لأول مرة في حديث لصحيفة “لوموند” الفرنسية أنه لعب دورا في الإفراج عن الرهائن، زاعما أن ذلك كان بدافع إنساني وليس مقابل المال، قبل أن يؤكد في ما بعد للصحافيين بيير فافير وميشال مارتن رولاند اللذين ألفا كتاب “عقد ميتران” أنه وضع اتصالاته في لبنان وفي سوريا، والأهم من ذلك في إيران، «في خدمة القضية» كما قال.
غير أن مطلعين آخرين على الصفقة زعموا أن رجل الظل لعب دورا أكثر مركزية حتى مما ذكر، حيث تحدث أحد أعضاء فريق التفاوض، مخفيا هويته، إلى صحيفة فرنسية واصفا “صفا” بأنه الرجل الذي يملك خيوطا مع الجميع في الشرق الأوسط، بما في ذلك الموساد وإسرائيل، وأن عملية الرهائن بأكملها تمت هندستها من قبل شركة “ترياكورب”، المملوكة لصفا آنذاك، وأن الشركة هي التي مولت الخطة بأكملها، حيث دفعت عشرات الملايين من الفرانكات نيابة عن الحكومة الفرنسية.
ورغم أن القضاء الفرنسي خلص في عام 2002 إلى إصدار مذكرة توقيف دولية بحق صفا، فإن رجل الأعمال الفرنسي اللبناني صاحب الاتصالات الواسعة لم يستجب أبدا لاستدعاءات الشرطة الفرنسية له على مدار قرابة سبع سنوات، قبل أن ينجح وكيله القضائي باستصدار حكم بوقف كافة أشكال التعقب له في عام 2009، ليواصل صفا رحلته في كواليس إدارة إمبراطوريته المالية مترامية الأطراف، مستندا على شبكة معقدة من اتصالات سياسية لم تعترف يوما بأي قيود، سواء كانت حدودا جغرافية أو خلافات سياسية أو حتى تعقيدات قانونية، شبكة كانت كفيلة بإبقاء سفينة صفا مبحرة في سلاسة على مدار قرابة 40 عاما في محيط تلفه أعاصير سياسية وعسكرية لا تنتهي.