في الوقت الذي تحول فيه الإرهاب إلى الخطر الأكبر على مستوى العالم، بات من الطبيعي السؤال عن إمكانية القضاء عليه، بعد أن أثبتت الجماعات المتطرفة قدرتها على تنفيذ تهديدات في أي مكان، متجاوزة كل العوائق التي تسعى الأجهزة الأمنية إلى وضعها في طريقها، في صورة مرعبة لا يمكن التفكير فيها من دون الخروج بمشاعر الإحباط واليأس.
على الرغم من التحذيرات التي تصدر عن مختلف الجهات، الدولية والإقليمية، لا يبدو أن هناك من يملك أجوبة على كل التساؤلات التي تطرح على هذا الصعيد، سواء كان الأمر يتعلق بالأمد المتوقع لهذه الحرب، أم بالنسبة إلى القدرة على إنهائها عسكرياً، من دون التنبه إلى مختلف الجوانب التي ساهمت في نمو التطرّف على نحو غير مسبوق.
الإنقسام العالمي
قد يكون من اللافت، أن ردات الفعل الأكبر على الجرائم الإرهابية تأتي بعد أي جريمة تقع في البلدان الغربية، مع العلم أن الكمّ الهائل يحصل في منطقة الشرق الأوسط بشكل شبه يومي، لتبدأ موجات الإدانة والدعوات إلى التشدد في محاربة المجموعات المتطرفة، بعد أن باتت تهدد الأمن والإستقرار العالميين، من دون أن يترجم ذلك إلى خطوات عمليّة يمكن البناء عليها، فالعالم حتى الآن لم يتحرك بصورة موحدة، والدليل قيام تحالفين دوليين، الأول بقيادة واشنطن والثاني بقيادة موسكو، ومن المفارقات أيضاً أن هذين المحورين متحاربان، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لكنهما يريدان محاربة الإرهاب في وقت يتقاذفان الإتهامات بالوقوف خلفه، من دون أن تقدم أي صورة حقيقية أمام الشعوب المتضررة.
اليوم، لم يعد مسرح العمليات العسكرية والأمنية محصوراً في سوريا والعراق، أو حتى ضمن دائرة بلدان الشرق الأوسط، حيث من المتوقع حصول أعمال إرهابية في أي رقعة من الكرة الأرضية، حتى بالدول التي تشهد إجراءات أمنية مشددة، ولدى أجهزتها المختصة خبرات وإمكانيات كبيرة، والدليل ما حصل مؤخراً في فرنسا وبلجيكا، بعد أن نجحت المجموعات المتطرفة في إختراق الإجراءات، والدخول إلى قلب مناطق من المفترض أن تكون ضمن قائمة الأهداف المتوقعة، وبالتالي من المؤكد أن هناك خللاً في مكان ما، ما يتطلب البحث سريعاً عن الثغرات الموجودة من أجل سدّها.
البداية الأفضل، يجب أن تكون من خلال توحيد الرؤية في كيفية التعامل مع هذه المجموعات، بعيداً عن لعبة المصالح الإقليمية والدولية، نظراً إلى أن المعالجة تقوم حتى الساعة على قاعدة تحقيق أهداف محددة من القوى الكبرى، وبالتالي تستخدم الجماعات الإرهابية أوراقاً في الصراعات القائمة على أكثر من صعيد، ويتم الرهان عليها لإنجاز ما لا يمكن إنجازه بصورة مباشرة، ما يتطلب قبل أي شيء آخر التسليم بأن هذه اللعبة لا يمكن الإستمرار فيها، على اعتبار أن نتائجها غير مضمونة على الإطلاق، إلا أن مسار الأحداث لا يظهر، مع الأسف، أن هناك توجهاً واضحاً نحو التوافق على هذا الأمر، لا بل ما ينتظر العالم، على ما يبدو، أخطر مما حصل حتى الآن.
المعركة الفكرية
التوافق على رؤية موحدة لمحاربة الإرهاب لا يعني الإنتهاء من المعركة، خصوصاً أن التجارب أثبتت أن الإجراءات الأمنية لا تكفي وحدها لمنع حصول هجمات، فالمعركة في مكان آخر تتطلب بذل جهود أكبر، لكنها ليست من النوع العسكري أو الأمني بل الفكري والإعلامي، حيث عمليات التجنيد التي تجذب الآلاف من الإرهابيين، الذين يتحولون بسرعة قياسية إلى قنابل موقوتة، من الممكن أن تنفجر في أي زمان أو مكان.
من هذا المنطلق، يجب التنبّه إلى أن الإرهاب هو بالدرجة الأولى معتقد يجذب العناصر نحوه، ومن ثم يعمل على تغذيتهم بالأفكار المتطرفة، بهدف الإستفادة منهم في أي أمر قد يطلب منهم تنفيذه، وبالتالي يجب أن تكون المواجهة الأساسية في هذا الميدان، فلا يمكن ترك هذه المجموعات تطرح أفكارها من دون نقد الركائز التي تقوم عليها، ونظراً إلى أنها تدعي الإنتماء إلى الدين الإسلامي، ينبغي أن يكون الرد من قبل الأوساط الإسلامية، التي تملك الدواء المناسب لها، لكن عليها أن تقوم بمراجعة شاملة لكل ما يتم الإستفادة منها، لا سيما على مستوى التراث الديني، الذي تطرح حوله تاريخياً مجموعات من العلامات الإستفهام.
بعد هذه الخطوة، من الضروري العمل على نشر وتسويق الأفكار المضادة على نطاق واسع، كي لا تكون محصورة في مراكز الأبحاث والدراسات، لأن تلك المتطرفة قادرة على الدخول إلى كل منزل في أي وقت، سواء كان في الشرق أم في الغرب في الجنوب أم في الشمال، مستفيدة من التقدم الحاصل في عالم الإتصالات، وإهمال هذا الجانب من المعركة سيؤدي إلى تفاقم الأزمة في المستقبل، فالآلة العسكرية قد تنجح في القضاء على العشرات أو الآلاف لكنها لن تمنع من بناء أعداد أكبر قد تكون أخطر، والدليل هو ما حصل في السنوات الأخيرة، حيث شهد العالم تراجع “القاعدة” لكنه وجد نفسه أمام “داعش”.
المواجهة الفكرية قد تكون الأصعب على الإطلاق، فهي تحتاج إلى قرار كبير، لا يقتصر فقط على مجرد بيانات تصدر، بين الحين والآخر، تنفي علاقة هذه المعتقدات بالرسالة الإسلامية، بل تتطلب تقديم الدراسات التي تظهر هذا الأمر بشكل واضح.
نزع الألغام بدل زرعها
بالتزامن مع المواجهة الفكرية والعسكرية، لا يمكن تجاهل الأسباب التي ساعدت على نمو هذه الظاهرة، فالجماعات الإرهابية إستفادت من عوامل عدة قائمة في المجتمعات التي نمت فيها، سواء كانت سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية أو تربوية، والأخيرة قد تكون المساعد الأبرز لأن الجهل يقود إلى المجهول، وبالتالي ينبغي معالجة هذه الأزمات كي لا تشكل وقود أي تطرف مستقبلي، والبداية ربما تكون عبر دعم الحلول السلمية في البلدان التي تشهد نزاعات مسلحة، والضغط على القوى المعرقلة من أجل الإتجاه نحو المسارات السياسية، بدل الإستمرار في سياسة الرهان على الفوضى، وهذا الأمر لا يجب أن يقوم على قاعدة القهر أو الظلم.
على صعيد متصل، من الضروري أن تقوم الحلول المنتظرة على قاعدة نزع الألغام لا زرعها، عبر طرح نظريات التقسيم وبناء الدول على قواعد مذهبية وعرقيّة، ستساهم خلال وقت قصير في عودة التحارب من جديد، بعد أن تؤدي إلى تسلم قيادتها من قبل أكثر الجماعات تطرفاً.
في المحصلة، لا تبدو الحرب على الإرهاب على موعد قريب مع نهايتها، بعد أن باتت الجماعات المتطرفة قادرة على التوسع والإنتشار في أي مكان، وحتى الساعة لم تظهر أي بوادر لمكافحة هذه الظاهرة بشكل جدي، بعيداً عن لعبة المصالح، ما يعني الإستمرار في المسلسل نفسه سنوات طويلة.