إكس خبر- حتى الإسرائيليون قبل الداخل اللبناني قرأوا رسالة حزب الله جيداً. فالحزب لم ينجح في رسم منهجية جديدة لتعاطي إسرائيل مع أي استهداف فحسب، بل بدّل اهتمامات داخلها الذي كان منشغلاً في الساعات القليلة الفائتة بحسابات “حرب أكتوبر” منذ 41 عامًا، ليصبح المحور “توازن الردع الجديد”.
هي ثلاثة أيام “عسكريّة” لحزب الله. فمن معارك بريتال البقاعية المباغتة، الى معارك عسّال الورد السورية التي يساند فيها حزب الله الجيش السوري، الى تفجير عبوةٍ ناسفة في شبعا الجنوبية… حلقة واحدة أراد حزب الله في توقيتها أن يوجّه رسالة الى الداخل المشكّك في “مقاومته” والمرتقي بنظريّة سقوط شرعية هذه المقاومة بعد تصويب البندقية الى وجهةٍ مغايرة. فهل أراد حزب الله إشاحة النظر عن المعركة البريتالية الأخيرة وعن ترجيحه كفة ميزان المعارك في سورية أم على العكس تمامًا أراد أن يقول إن تحركاته العسكرية بقاعاً وسورياً لا تعني إغفاله تحركات العدو الأول والدائم جنوباً؟
ضرب الحديد حامياً…
الأكيد أن اختيار حزب الله توقيت العمليّة ليس بريئًا. فالحزب وإن نجح في تلقّف ردود الأفعال الداخلية القاسية التي تتهمه بجرّ لبنان الى حربٍ هو في غنى عنها، أراد أن يضرب الحديد حاميًا لا سيّما على مستوى قواعد اللعبة التي بدأت علامات الاستفهام تلفها في الآونة الأخيرة والمرتبطة بمدى قدرته على فتح أكثر من جبهةٍ في آنٍ، ناهيك عن المراهنة على عدم جرأته على “الحركشة” في الوكر الإسرائيلي جنوباً نظراً الى انشغاله في حماية قراه الحدودية بقاعاً من المتشددين الزاحفين صوبه وفي حسم بعض المعارك الاستراتيجية في سورية.
“لم أنسَ إسرائيل”…
اليوم، وبعدما تراءى للكثيرين أن الأمور انتهت عند هذا الحدّ، بدت مراهنة حزب الله على قضّ المضاجع الإسرائيلية مرتبطة بـ”قدسيّة” التوقيت بالنسبة الى داخلٍ إسرائيلي يتحسّر على فصول “الفشل الاستخباراتي” في ذكرى حرب أكتوبر والذي أقرّت به رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير نفسها. ومع ذلك، قرأ الإسرائيليون استراتيجية “المباغتة” التي اعتمدها حزب الله جيداً، وقد بدا ذلك جلياً في معظم وسائل إعلامهم وإن كان أكثرها جلاءً ما خرجت به “هآرتس” على لسان المحلل العسكري عاموس هرئيل الذي اعتبر أن “المنظمة تعمل بشكل مستمر من أجل تثبيت ميزان ردع جديد مع اسرائيل وهي لا تريد ضبط نفسها امام ما تعتبره عدواناً من جانبها”. تلك القراءة تتطابق مع ما توقّفت عنده مصادر وزارية عبر “صدى البلد” مشيرةً الى أن “رسالة حزب الله واضحة إذ أراد من خلال هذه العملية المفاجئة أن يقول بصريح العبارة لجميع “المحرتقين” على مقاومته: لم أنسَ إسرائيل، ولكلّ مهمّة فريقها”.
حفاظًا على ماء الوجه
لا يكمن عنصر الجِدّة في أسلوب حزب الله في إطار حربه المُعلنة على إسرائيل بل في ردّة فعل الأخيرة التي حفظت ماء وجه جنديَّيها المصابيْن برشقات مدفعية على جرود كفرشوبا وشبعا قبل أن تُشهِر “احتفاظها بحقّ الرد”. حقّ ردّ لم تتّضح معالمه بعد رغم مرور أكثر من يوم ونصف اليوم على الحادثة (حتى كتابة هذه السطور) وهو ما لم يعهده الإسرائيليون ولا اللبنانيون في حوادث من هذا النوع. صمتُ إسرائيل عن الخطوات الانتقامية المرتقبة” لم يحل دون إثارة بلبلة في الداخل اللبناني الذي يعيش بين مطرقة الإرهابيين بقاعاً وسندان العدو جنوبًا. هذا على مستوى الشعب، أما على جبهة ردود الأفعال السياسيّة فلم تكن هي الأخرى “في قمّة الجرأة” ركوناً الى معادلة: “الفضل سبق” القائمة على الخروق الإسرائيلية المتكررة حدّ الوقاحة، وإن لم تخلُ تلك التعليقات من “كليشيهات” سعي حزب الله الى استجرار حربٍ على لبنان كما فعل في تموز 2006.
إشاحة نظر أم تثبيت صورة؟
كثرٌ ينهلون من ردّة الفعل الإسرائيلية ليغمزوا من قناة تغيير في قواعد الحرب التي ينتهجها حزب الله ضدّ إسرائيل. وفي هذا الإطار يؤكد الخبير العسكري العميد المتقاعد أمين حطيط لـ “صدى البلد” أن “هذه العملية هي تثبيت لصورةٍ أرادت إسرائيل وأتباعها تغييرها، والصورة هي أن حزب الله تنظيم مقاوم استطاع عبر عملياته أن يرسي قاعدة على أساس توازن الردع مع إسرائيل. فخلال الفترة السابقة خصوصًا بعدما تبنى حزب الله معركة دفاعية في سورية ثمّ في منطقة البقاع، ارتفعت أصوات كثيرة لا سيّما في الداخل اللبناني تقول إن حزب الله تخلى عن المقاومة وبدّل اتجاه بندقيته. عدا عن ذلك، جعل انشغال حزب الله في سورية بعضهم يظنون أن معادلة توازن الردع سقطت وبالتالي إسرائيل يمكنها أن تقوم بأي شيء بلا ردّ”. هل نفهم أن حزب الله أراد من تلك العملية أن يقدّم برهانًا على أن معركتيه في بريتال وسورية لا تشيحان نظره عن العدو الإسرائيلي؟ يعلّق حطيط: “أراد حزب الله أن يثبت صورته الحقيقية ويُسقط الافتراءات”. ولكن بعضهم قرأوا في هذه العملية محاولة من حزب الله لإشاحة النظر عما حصل في بريتال وما يحصل على جبهة عسّال الورد؟ يتلقف حطيط: “هذه قراءة سطحية لأن حزب الله لو خسر في بريتال لاحتاج الى مثل هذه السياسة ولكن بالعكس، أجهض الحزب الهجوم الإرهابي على بريتال لا بل اندفع الى تطهير منطقة تساوي بمساحتها بيروت الكبرى”. ولكن هل من مصلحة حزب الله فتح جبهتين في وقتٍ واحد؟ يجيب: “من مصلحته تثبيت صورته ومعادلة توازن الردع لا أكثر”. ألا يُستنزف بهذه الطريقة؟ يعلق حطيط: “ليس فعلاً، إذ هناك رسالة ثانية أراد حزب الله إيصالها من خلال هذه العملية ومفادها أنه في أوج مواجهاته مع التفكيريين في البقاع وسورية هو قادرٌ على تنفيذ عملية ضدّ إسرائيل والاستعداد للأسوأ، بمعنى تأكيد مقولته المُعنلة إن القوى الجاهزة لمقاتلة إسرائيل ليست نفسها القوى التي تعمل في سورية والبقاع إذ لكل مهمّة قواها ولا تؤثر مهمّة على أخرى، وهو ما قرأه الإسرائيليون جيداً وبدا ذلك جلياً في إعلامهم”. وعن منطقية الربط في التوقيت بين معارك بريتال وعسّال الورد ومن ثمّ شبعا في غضون ثلاثة أيام متعاقبة ختم حطيط: “الربط يأتي من طريق آخر وهو أن التكفيريين عندما وضعوا لبنان على خريطة دولتهم المزعومة، بدا أن خطتهم التنفيذية تعتمد على محاور ثلاثة للاندفاع الى لبنان: الأول محور عرسال وتمّ تجميده، الثاني محور بريتال وتمّ قطعه، والثالث محور شبعا-حاصبيا وتمّ إرساء عمل استباقي وقائي لمنع انطلاقه”.
مخطّط خبيث…
إسرائيل اعتدت فكان لها الجواب… هكذا يقرأها حزب الله وجمهوره ونخبويّوه على بساطتها وواقعيتها. فإسرائيل أقدمت على ثلاثة اعتداءات متكررة أولها على شبكة اتصالات حزب الله ما أدى الى استشهاد علي حسن حيدر (الذي حملت العملية اسمه)، وثانيها على الجيش اللبناني فأصيب جندي، وثالثها خطف راعٍ لبناني. كلّ ذلك في غضون ثلاثة أشهر، فجاءها الردّ في عملية واحدة. ردّ لا يُسقِط في الحسبان -عدا صورة المقاومة وتوازن الردع- السيناريوهات التي تتحدّث عن مخطّطٍ إسرائيلي “خبيث” بتطويق حزب الله في الجنوب من خلال تحريك “الدمى الإرهابية” وتوسيع رقعتها، ولعلّ أوّل مؤشرات هذا المخطّط وقوف إسرائيل متفرّجة على التكفيريين يرفعون راياتهم السود في مناطق الجولان المحتلّ وربما عقدها العزم على تعبيد طريقهم نحو الداخل اللبناني من البوابة الجنوبية وتحديداً العرقوب وشبعا. أياً يكن، الأكيد أن حزب الله وإن لم يغيّر في هذه العملية غير المسبوقة منذ العام 2006 في نواة قواعد حربه مع إسرائيل، فإنه أفلح في تبديل جانبٍ من منهجية الردّ الإسرائيلي في رسالة “تنقيح” لصورة المقاومة التي يخدشها الداخل قبل الخارج.