بعد الانتخابات النيابية في 1972، أصدر الباحث الراحل إيليا حريق كتاباً حمل عنوان «من يحكم لبنان» استند فيه إلى نتائج تلك الانتخابات ليرسم لوحة علاقات القرابة وتداخلها مع شبكات المصالح المالية والاقتصادية، مُظهراً بذلك ضيق القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي اللبناني.
أثار الكتاب يومها ضجة، لانطوائه على تحذير من محاذير وخيمة تنتظر اللبنانيين إذا لم يبادروا إلى إصلاح نظامهم، خصوصاً أن انتخابات 1972 (وقبلها انتخابات فرعية عام 1970) أظهرت استحالة تغيير ديموقراطي يعكس تطور المجتمع اللبناني وتبدله بين الاستقلال ومطلع السبعينات.
مأساة استعباد عشرات الفتيات السوريات جنسياً تعيد، بعد 44 سنة على كتاب إيليا حريق، طرح السؤال عمّن يحكم لبنان، ذلك أن مشاعر الغضب والاستياء الشديد والمُحق التي عبّر عنها عدد من الكتاب والناشطين السوريين بعد نشر أنباء الفضيحة- الكارثة، تقابلها عند عدد غير قليل من اللبنانيين مشاعر اليأس واللاجدوى. تشي التقارير الإعلامية بشبهة حصول الشبكة المذكورة على حماية أمنية وسياسية رفيعة المستوى، على ما ألمح النائب وليد جنبلاط في تغريدة له على «تويتر» ووفق ما يُفهم من شهادات السيدات ضحايا الاسترقاق.
في ظل مناخ التفلت من العقاب وثقافة الاستقواء بالسلاح وتفكك الدولة والمجتمع والخروج الجماعي على القانون وضحالة محاولات التصدي للمناخ والتفكك والخروج المذكورين، يتسم ظهور من يستثمر في الخراب السوري بالعادية، مثَله مثَل الديدان والحشرات المرافقة لتحلل الجثث وتعفنها. وها هي جثة الدولة اللبنانية مرمية على قارعة الطريق تفوح منها الروائح النتنة من دون أن يقترب أحد لرفعها.
ولا يستطيع اللبنانيون، كجماعات ونخب، ادعاء البراءة من مآس مثل مأساة المستعبدات السوريات، حيث فضلوا غض النظر عمّا يعانيه اللاجئون والركون إلى ملاذاتهم الطائفية الآمنة بدل السعي إلى تحطيمها لإنقاذ المجتمع (وليس الدولة التي انتهت وما من أمل جدي في إحيائها في الظروف الراهنة). وتقول التقارير الإعلامية إن شبكة الاسترقاق المكتشفة ليست سوى رأس جبل الجليد الغاطس في المياه اللبنانية- السورية وفي أهوال حروب تمزق هذه المنطقة. وما النهاية التي آل إليها الحراك المدني على خلفية أزمة النفايات، غير استعراض للحدود المتواضعة لقدرات المجتمع اللبناني المعطوب على إصلاح ذاته وسلطاته السياسية.
وإذا عُطفت الحالة المزرية لأجهزة الدولة اللبنانية على أوضاع اللاجئين على الأزمة الاقتصادية الخانقة، إلى جانب حملات التحريض العنصرية التي يديرها ويشرف عليها «كبار القوم»، يصحّ توقع استمرار الجرائم التي تشمل مئات وربما آلاف المتورطين على ما ظهر في قضية شبكة المعاملتين. غني عن البيان هنا أن «الصورة والسمعة» اللبنانيتين قد اضمحلتا من زمن بعيد، وأننا نراقب دمار بلدنا بعيون مفتوحة وأيدٍ تكبلها سلاسل التواطؤ الطائفي– السياسي.
من يحكم لبنان؟ إذا اردنا الإصغاء إلى ضحايا شبكة الاسترقاق، لقلنا إن وحوشاً من غير طبيعة البشر هي ما أو من يدير هذا البلد ويستغله حتى نقطة الدم الأخيرة، وإن الوسائل المقترحة من جماعات الهيمنة السياسية لن تؤدي إلا إلى تحسينات مجتزأة تعيد إنتاج الكارثة بعد أعوام قليلة.
في 1975، أنتج إغلاق طريق الإصلاح حرباً أهلية. في 2016 يُعاد إغلاق الطريق.
الكاتب: حسام عيتاني