كيف نوفي شهر رمضان حقّه؟!

مقال خاص من كتابة السيّد علي فضل الله نجل الراحل العلامة السيد محمد حسين فضل الله – {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى والفرقان…} (سورة البقرة، الآية 185).
اليوم نحطّ رحالنا على باب شهر الله، شهر رمضان المبارك، شهر التّوبة والمغفرة. وشهر رمضان لطالما كان ولا يزال يمثّل المدرسة والورشة والمحطّة في حياة المسلمين في كلّ بقاع الأرض، ومنذ بزوغ فجر الرّسالة.

ماذا نريد من شهر رمضان؟
والسّؤال الّذي يُطرح عادةً: ما المطلوب منّا في هذا الشّهر؟ كيف نوفيه حقّه؟ أيكفي أن نصوم ونصلّي ونحيي لياليه؟ أمّا السؤال الأدقّ الذي يجب أن نسأله فهو: ماذا نريد نحن من شهر رمضان؟ وهل دين الإسلام بحاجةٍ إلى صومنا وصلاتنا؟ هل لأجل هذا شرّع الله الصّيام والصّلاة؟ للأسف، هذه النظرة لا تزال قاصرة عن فهم فلسفة الصّوم وفلسفة أيّ عبادة جاء بها الإسلام.
فالدّين كلّه ليس بحاجة لأن نقدِّم له خدمات، وليس بحاجة إلى روّاد كي يحيا ويبقى، إنما الدين هو من يقدّم لنا هذه الخدمات، ويقدم هذه البركات، ويقدّم ما يفيد الإنسان في حياة كريمة، وفوقها جنّات يوم القيامة. إنّ هدف الإسلام كان ولا يزال نقل الإنسان من الظّلمات إلى النّور. ومصلحة الإنسان في الدّنيا قبل الآخرة، هي في النّور وليس في الظّلمات.
وهناك من يتفضّل على هذا الشّهر أو على الله بصيامه وحتّى بكلّ العبادات، فيما شهر رمضان فرصة وعلينا استغلالها، والتلهّف للاستفادة منها لمصلحتنا كمجتمع ومصلحتنا كأفراد. والجماعة لا تصلح أحوالها ما لم تستقم أحوال أفرادها.
لهذا لا بأس في هذا الموسم تحديداً، أن نرفع شعار الذّات، بمعنى أن يكون الشَّهر فرصةً يتفرّغ فيها الفرد لنفسه، ينفتح عليها، يدرك احتياجاتها، ويضعها أمامه على الطّاولة، ما لها وما عليها، كجردة حساب أمام الله، تماماً كما يفعل البعض حين يضع ما معه من أموال، ويحسب ما عليه من أعباء ليرتّب أموره الماليّة.

الأخلاق أوّلاً
ولكنَّ شهر رمضان يريد منّا جردة حساب من نوع آخر؛ أن يضع الإنسان ما له وما عليه من ناحية الأخلاق والمزايا والعيوب ونقاط الضَّعف، فإن كان جادّاً في إصلاحها وترميمها، فلن يجد أنسب من بداية شهر رمضان ليفعل هذا.. وكما يهرع إلى التموين والتخزين وسدّ ما ينقص من رفوف المونة والثّلاجة، عليه أيضاً أن يهرع ليقرر ما ينقصه على مستوى الأداء والأخلاق قبل أن ينطلق الشهر.
في موسم الرّحمة والعروض الكثيرة والوافرة من كرم الله وفضله، ليكن جهدنا الأكبر التخلّق بأخلاق الإسلام وأخلاق الله، فالإسلام وحسن الخلق صنوان، وكما نقول: “الله ربي والإسلام ديني”، علينا أن نحوّل شعارنا إلى عمل، ولنقل: “الله ربي والأخلاق سبيلي”.
إنّ حسن الخلق لم يكن أبداً على هامش الدّين، بل كان عمقه، وجوهره هو خطّ الالتزام به.. ورسول الله عندما عنون رسالته، لم يقل إنما بُعثت لأتمم الصّلاة والصّيام والحجّ، بل قال: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. والعبادات هي منصّة للارتقاء في سلّم الأخلاق.
لنستفد من الفرصة، ولنتنافس في من يعمّق ويعزّز برنامجه أكثر، لندرس في ثنايا أنفسنا مدى منسوب الأخلاق فيها، وكيف نصلح ما فسد، وكيف نُدعّم ما حسن ونقوّيه. قد يقول قائل: ولكن من الصّعب أن يوجد من هو مستعدّ لأن يضع ما لديه من عيوب أمامه على الطّاولة.. قد لا يعترف بها، أو قد يكون الأمر قاسياً عليه للاعتراف… ولكنَّ الله يؤكِّد: {بَلِ الْإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} (سورة القيامة، الآيتان 14 و15)، وعليه أن يواجه نفسه قبل أن يُواجَه بهذه العيوب والمشاكل أمام الأشهاد: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ * وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} (سورة الإسراء، الآية 13).

جردة حساب مع الذّات

نحن بحاجة إلى مثل هذه العودة الصّادقة لأنفسنا إلى جردة الحساب معها، والحلّ أن تحوّل برنامجك إلى خطوات عمليّة بعد أن تعد الله بالوفاء بعهودك.
مثلاً، من يعرف أنّ لديه سهولة التورّط بالكذب في كلامه ووعوده مع النّاس أو في تجارته ومعاملاته، فليقرّر أن يحذر ويمسك لسانه كلّما جرّه ليكذب، ويتذكّر أنّه وعد الله، وأنّ الله سيعطيه فرصةً إذا التزم.
ومن كان يغتاب ثم يندم، ويعرف أنّ فيه نقطة ضعف عند تقييم النّاس، فيغتابهم بما لا يرضيهم، فالنّدم لا يكفي.. وليكن برنامجه في هذا الشّهر: أعدك يا ربّ أن أرقى إلى مستوى أخلاقك وأضبط لساني عن التفوّه باستغابة، وأن أضبط سمعي، ولا أحضر مجالس من كانوا يتسلّون بهتك أعراض النَّاس ونبش عيوبهم، ويجرّونني إليها.
أمّا من يعرف أنّه سريع الغضب، فليقرّر أن يتّخذ لنفسه سياسة جديدة: برودة الأعصاب أمام أيّ استفزاز، والعدّ للعشرة، والقول لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
ومن كان متسرّعاً متعصّباً، ويكتشف ذلك بعد فوات الأوان، فليقرّر وبدءاً من شهر رمضان، أن يكون تعصّبه للحقّ؛ أن يقف ليسأل نفسه قبل التفوّه بأيّ موقف أو رأي: مهلاً، لماذا أنا مع هذا أو مع ذاك؟ وهل لربي في ذلك رضا؟
ومن يشعر بنفسه القسوة والحدّة، فليتدرّب على مراقبة النفس وكبح جماحها.
ومن كان لا يستطيع ضبط لسانه عن التفوّه بالبذاءة، ويندم عليها، فليتدرّب على الصمت واختيار العبارات بهدوء، ثم يكون طيّب الكلام.
وقد يكون الإنسان نماماً أو فتّاناً عن قصد أو غير قصد، أو سيئ الظنّ بالنّاس، والدّواء أن يدرّب نفسه يوميّاً وفي كلّ موقف، كيف يكون حسن الظنّ، ويطرد وساوس الشّيطان الخنّاس.
أمّا الحسود، فلا دواء لحسده غير ردع النّفس ولجمها، وتعوّد القناعة والرّضا بعطاء الله.
واللائحة تطول، وكلّ إنسان خبير بنفسه.

 

شهر التدرّب
إنّ شهر الصّوم ـ أيّها الأحبّة ـ فرصة حقيقيّة للتّدرّب، وقد يحتاج الصّائم إلى أن يعدّ جدولاً أو دفتراً يسجّل فيه ما ينبغي عمله، ويعود إليه كلّ يوم، تماماً كما في ورش العمل والتّدريبات، ليدوّن ما حصل معه، مثل هذه الملاحظات: اليوم أنا كظمت غيظي.. اليوم نجحت.. لم أنجرّ للمسايرة على حساب الحقّ، اليوم أنا تعرّضت لاستفزاز في العمل، ولكن الحمد لله، كان ردّ فعلي سليماً هادئاً…
إنّ من يجبر نفسه على ترك الطّعام والشّراب، هو قادر على أن ينفّذ مثل هذا البرنامج، وبذلك يصحّح مسار حياته، يسقط منها الشّوائب، يهذّبها، يقوّمها، يجبرها على أن تولد من جديد، فقد ورد في الحديث: «الشقيّ الشقيّ من حرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم».
وهنا يمكن أن نلحق بركب الصّائمين، ونكون من عباد الرّحمن من المؤمنين الصّادقين {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (سورة الفرقان، الآية 63).
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (سورة الفرقان، الآية 68).
{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (سورة الفرقان، الآية 72).
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (سورة الفرقان، الآية 74).
لقد رسم لنا الأئمّة معالم هذا الطّريق، وليكن برنامجنا ما حرص عليه الإمام زين العابدين(ع) في دعائه بعد الحمد لله على قدوم شهر رمضان والامتنان له، لأنّه هيّأ له فرصة بلوغه: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَوَفِّقْنَا فِيهِ لِأَنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالْإِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَا، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا، وَأَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا، حَاشَا مَنْ عُودِيَ فِيكَ وَلَكَ، وَأَعِنَّا عَلَى صِيَامِهِ بِكَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيكَ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ بِمَا يُرْضِيكَ، حَتَّى لا نُصْغِيَ بِأَسْمَاعِنَا إِلَى لَغْوٍ، وَلَا نُسْرِعَ بِأَبْصَارِنَا إِلَى لَهْوٍ، وَحَتَّى لَا نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إِلَى مَحْظُورٍ ، وَلَا نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إِلَى مَحْجُورٍ، وَلَا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنَا إِلَّا بِمَا مَثَّلْتَ، وَلَا نَتَكَلَّفَ إِلَّا مَا يُدْنِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَلَا نَتَعَاطَى إِلَّا الَّذِي يَقِي مِنْ عِقَابِكَ».

شاهد أيضاً

خارجية الامارات تمارس الانبطاح الكلي بإدانة عملية طوفان الأقصى

خارجية الامارات تمارس الانبطاح الكلي بإدانة عملية طوفان الأقصى

الطلب من الإعلاميين تمسيح الجوخ ..جديد السلطة اللبنانية لتغطية الفشل

الطلب من الإعلاميين تمسيح الجوخ ..جديد السلطة اللبنانية لتغطية الفشل

اكس خبر – يبتلي لبنان بمزيد من الانهيارات بسعر ليرته وعلى الصعيد الاقتصادي لجهة الأسعار …