بعد حرب الخليج الثانية، كان الحراك الصحوي على أشدّه؛ أضلاع ثلاثة تحرّك الحشود، في بريدة والرياض وجدة، المواجهة كانت مع العلمانيين من جهة؛ ومناهضة وجود قوات أجنبية من جهة أخرى… وحدث أن خرجت بعض النسوة يطالبن بقيادة المرأة للسيارة، وذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1990، معظمهنّ على مستويات تعليمية وعملية عالية. أكثر من 47 امرأة ضمّنت أسماؤهنّ في منشور، وفي جنوب بريدة، من أكبر التسجيلات الباثّة للخطاب السروري، وضعت على أرففها نسخ منه ليتضمّن أسماء تلك النساء وأسماء أزواجهنّ، وخانة أخرى خاصة بـ«المذهب» كأن يوصف الزوج بـ«الشيوعي» أو «العلماني».
في شتاء عام 2003 كتب أحد عرّابي ذلك المنشور، ومن الذين تولوا كبره، وقاموا بنشره… مقالة في إحدى الجرائد حوت اعترافاتٍ حول تلك المرحلة، كيف كانت المنشورات توزع، من خلال الفاكس، والتسجيلات السرورية، والمناطق الحيوية، ليختم مقالته بقوله: «أسأل الله أن يغفر لي تلك الجناية». لقد كانت معركة؛ بكل أوجهها وأذرعها وأطرافها، وزاد من أوارها الظرف السياسي الحاسم في المنطقة؛ إذ يوجد في الخليج نصف مليون جندي أجنبي، وأكثر من ألف طائرة مقاتلة. لقد تم استغلال ذلك المناخ لإحراج الحكومة وفرض المشروع عليها أو الخروج إلى الشارع.
سيذكر التاريخ أن الثلاثاء الماضي كان يوماً مفصلياً بتاريخ السعودية، وذلك ليس لجزئية قيادة المرأة للسيارة، على أهميتها، بل للثيمة التي يبثّها الأمر السامي للداخل والخارج. ثمة انطباع متصاعد لدى العالم بأن السعودية الآن تخوض تأسيساً جديداً قوامه التحديث ضمن حركة المجتمع وحاجته، إننا نشهد حالاً الدخول في زمن حداثي بامتياز، وذلك بغية تمتين دولة مدنية مؤسسية تضبط المجال العام من الاضطراب والتداخل. كما يرسل الأمر السامي للعالم أجمع أن السعودية تسعى من خلال «رؤية 2030» لاقتصادٍ متين، ولشراكة مع العالم بالقيم والثقافة والتأثر الإيجابي بالحضارات والمجتمعات، إنها الحداثة ضمن مسار السعوديين الثقافي والديني، وضمن السعي نحو واقعٍ اجتماعي جديد يغيّر فيه السياسي من أفكار المجتمع وقناعاته، وهو قادر على ذلك.
طوال الأيام الماضية تحاول بعض الأصوات المتطرفة، والإعلامية المنتفعة من دولة قطر، إلقاء تعليمات على السعوديين حول طريقة إدارة شؤون بلادهم مستحضرين تصريح السفير الإماراتي العتيبة حول العلمنة. وحين احتفل المجتمع بأكمله باليوم الوطني زايدوا علينا في العقيدة والأخلاق الإسلامية. تلك التعليمات والنصائح تأتي من أناس ليست لديهم الحيثية الأخلاقية ولا الدينية، ولا القيمة المعنوية، لأن يعلّموا دولة كبرى مؤثرة مثل السعودية كيف تصنع احتفالاتها وكيف تدير شؤونها!
الملاحظ أن الخطاب المتطرف الذي كان ينتشر بالخليج أصبح محصوراً داخل دولة قطر الداعمة للإرهاب، ولم يعد له حضوره بالمجال العام الخليجي، وآية ذلك أن التغييرات الكبرى المفصلية التي أجريت لقيت ترحيباً من المؤسسة الدينية، والدعاة، والمجتمع السعودي؛ على حد سواء، وحين صدر الأمر السامي حول قيادة المرأة للسيارة، سمعنا الزعق الممل من منصاتهم الإعلامية التافهة.
منذ أبريل (نيسان) الماضي والأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، يؤسس لتغيير اجتماعي يرفع من مستوى الرفاه، ويجعل الاستمتاع جزءاً من يوميات الإنسان السعودي. لقد مرت أكثر من ثلاثين سنة في تاريخ مجتمعنا كان الخطاب المتشدد هو المهيمن… سياط خطاب ألهبت ظهور جيلين وأكثر، وجعلت كل يوميات الحياة أساسها ومحركها الوسواس بسبب كثافة الحث الوعظي على «الاستعداد للرحيل».
من مقولات الأمير محمد بن سلمان الأساسية بالتغيير: «أنا شاب، وسبعون في المائة من مواطنينا هم من الشباب. نحن لا نريد أن نضيع حياتنا في هذه الدوامة التي كنا فيها طوال الـ30 سنة الماضية بسبب الثورة الخمينية، التي سببت التطرف والإرهاب. نحن نريد أن ننهي هذه الحقبة الآن. نحن نريد – كما يريد الشعب السعودي – الاستمتاع بالأيام القادمة، والتركيز على تطوير مجتمعنا، وتطوير أنفسنا كأفراد وأُسر، وفي الوقت نفسه الحفاظ على ديننا وتقاليدنا. نحن لن نستمر في العيش في حقبة ما بعد عام 1979. لقد ولى زمان تلك الحقبة».
إنه التغيير الشجاع، والتغيير الأعظم بتاريخ المجتمعات الذي يقوده حاكم مستنير:
إذا الدّوْلَة استكفَتْ بهِ في مُلِمّة
كفاها فكانَ السّيفَ والكَفّ والقَلْبَا
فَبُورِكْتَ مِنْ غَيْثٍ كأنّ جُلودَنَا
به تُنْبِتُ الدّيباجَ وَالوَشْي وَالعَصْبَا