تناول تقرير صدر أخيرا عن مؤسسة سيتي بنك الأميركية الوضع الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي. وقال التقرير إن البطالة لعبت دورها في إثارة الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في المنطقة العربية، والتي أدت إلى تغيير أنظمة كل من مصر وتونس. كما تظاهر الأردنيون والعمانيون ليس للمطالبة بتغيير النظام، وإنما للحصول على مستوى معيشة أفضل، ودارت الشكوى الأولى والأخيرة حول الافتقار إلى الوظائف. وحتى في البحرين، تسبب انعدام تساوي فرص العمل بأزمة. ويرى التقرير أن البلدان التي تتسم بارتفاع معدلات البطالة مرشحة لاضطرابات مستقبلية.
لكن في دول مجلس التعاون الخليجي، يبدو السؤال عن التوظيف أكثر تعقيداً من السؤال عن توافر الوظائف من عدمها. إذ يرى التقرير ان الافتقار إلى الوظائف ليس هو المشكلة في دول التعاون، وإنما عدم ملاءمة نوعها لنسبة كبيرة من مواطنيها الذين لا يزالون يتجنبون الانخراط في هذه القطاعات أو الأعمال.
يقول تقرير سيتي بنك ان الإحصائيات الرسمية تشير إلى أن هناك الكثير من الوظائف المتوافرة في كل دولة من دول الخليج، وأكثر من أعداد المواطنين الذين هم في سن العمل. وإذا ما تم جمع دول التعاون كلها، فإن عدد الوظائف يساوي ضعفي أولئك المواطنين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و64، على الرغم من التباين بين بلد لآخر. إذ بحسب «سيتي بنك» هناك وظائف كافية في عُمان بالنسبة لجميع السكان من هم بسن العمل، لكن عدد فرص العمل المتاحة لكل مواطن قطري يزيد على 10. لكن بوجه خاص ينبغي أن يكون التوظيف الكامل في جميع الحالات معياراً. إلا أن أقل من 50 في المائة من البحرينيين والسعوديين والعُمانيين الذين هم في سن العمل موظفون رسمياً، وهذا الرقم هو أكثر فقط من 60 في المائة بالنسبة لدول التعاون الأخرى. ومقارنة مع معدل منظمة الأويسد، وجد التقرير انه في حين لا توجد وظائف كافية لعدد المواطنين في سن العمل، فان 90 في المائة تقريباً من المواطنين يعملون في وظائف حكومية.
من جهة أخرى، يقول التقرير إن الفرق بين عدد الوظائف المتاحة وتلك التي يشغلها المواطنون يعكس المستوى المرتفع للعمالة الأجنبية في سوق العمل في المنطقة. فالعمالة الأجنبية تشكل الغالبية العظمى من القوة العاملة بدول التعاون، أي نحو 70 في المائة من المعدل، وتزيد على 90 في المائة في قطر والإمارات. وهذا الخلل الإجمالي هو نتيجة عدد من العوامل المشتركة في معظم بلدان التعاون. وتظهر الأحداث الأخيرة حجم هذا الاختلال الذي قد يؤدي إلى احتكاكات اجتماعية وربما اضطراب سياسي. والأكثر من هذا، إن الوضع الديموغرافي في دول التعاون يشير إلى غياب الزيادة الكبيرة في معدلات دخول سوق العمل في أنحاء من دول التعاون، وستزيد البطالة بشكل دراماتيكي خلال السنوات المقبلة.
ضعف المشاركة
يقول التقرير بشكل عام إن مساهمة المرأة في سوق العمل بدول التعاون أقل مقارنة بدول منظمة الأويسد، الأمر الذي يشير إلى أن معدلات المساهمة في سوق العمل الإجمالي (الذي يشمل مشاركة كل من الذكور والإناث) ستكون أقل من دون شك في دول التعاون. على سبيل المثال، تعد مساهمة المرأة السعودية في سوق العمل ضعيفة، الأمر الذي يشير إلى أن مساهمة الذكور تبلغ 82 في المائة، مقارنة بــ 47 في المائة من الإجمالي. وفي البحرين تبلغ مساهمة الرجل 62 في المائة مقارنة بــ 49 في المائة عند المقارنة بالمرأة. وهذه الأرقام ليست مخيفة إذا ما قورنت بالإجمالي، لكنها أقل من معدل الأويسد، كما أن النظرة المستقبلية غير مشجعة، نظراً إلى الوضع الديموغرافي في هذه البلدان. ويقول التقرير إن المشكلة ليست بوفرة الوظائف بقدر فرص العمل الملائمة.
القطاع الخاص
إلى ذلك، يفيد التقرير بانه – بعيداً عما يفضله المواطنون المحليون – يتجنب القطاع الخاص توظيف المواطنين للأسباب التالية:
1 – المواطنون يطلبون رواتب عالية. ففي عدد من بلدان دول التعاون، لا يرضى المواطنون بالحد الأدنى من الرواتب ويطالبون بمزايا لا يحصل عليها حتى العمال الأجانب، الأمر الذي لا يغري من حيث التكلفة للشركة التي تتجه لتوظيف المحليين، الذين يتوقعون الحصول على رواتب عالية.
2 – الأجانب لديهم حوافز أكبر عندما يتعلق الأمر بالأداء، وفي هذا يقول التقرير إن كثيراً من العمالة الأجنبية في دول التعاون تعمل في حين تترك عائلاتها بالوطن الأم، وبالتالي يكون الهدف الأسمى لها والوحيد هو العمل.
3 – توظيف الأجانب وتسريحهم أسهل. يقول التقرير إن طرد العمالة المحلية غالباً ما يكون شأناً صعباً في دول التعاون بناء على قوانين العمالة الحالية. وهو ما لا ينطبق على الأجانب. فأرباب العمل يبحثون عن المرونة في التكلفة وهو ما يجعلهم يفضلون توظيف الأجانب. علاوة على أن صعوبة طرد المواطنين تقلص الحافز نحو العمل.
غياب المهارات
وعلى افتراض أن العمالة المحلية لديها الرغبة في دخول القطاع الخاص، وأن الشركات مهتمة أكثر بتوظيفهم، فإن هناك عقبة أخرى أمام توظيف عدد كبير من المواطنين الخليجيين، ألا وهي افتقارهم إلى المهارات المناسبة للوظائف المتوافرة. فأنظمة التعليم في دول مجلس التعاون الخليجي لم تواكب سوق العمل الحديث، الذي تطور بسرعة خلال العقدين الماضيين. وبالتالي هناك عدم توافق بين المهارات المطلوبة من قبل الاقتصاد الخليجي وبين المطلوبة من السكان المحليين. ووفقاً للجهاز المركزي السعودي للإحصاءات العامة والمعلومات، فإن %17 فقط من القوة العاملة المحلية من الذكور تحمل درجة علمية جامعية. وانخراط مواطنين أكثر في وظائف القطاع الخاص يستلزم منهم توافر مهارات ملائمة للقيام بهذه المهام.
معالجة المشكلة
وتطرق تقرير سيتي بنك إلى ما قامت به دول التعاون في حل مثل هذه القضايا عبر التوطين مثلاً. وفي هذا يقول إن سياسات التوطين ترغم الشركات على ضمان نسبة مئوية محددة من قوتها العاملة مؤلفة من مواطنين، مع فرض عقوبات مالية وتنظيمية على الشركات التي تفشل بالالتزام بأهداف التوطين هذه. إلا أن هناك مشاكل عديدة تواجه هذه السياسات في حال فشلت بأي حال بتحسين معدل دخول المواطنين سوق العمل، خصوصا أن سياسات التوطين لا تملك القدرة على جعل وظائف القطاع الخاص مغرية أكثر أمام المواطنين، أو أن تجعل المواطنين مؤهلين أكثر للقيام بهذه الأعباء، أو تقليص الحافز أمام المواطنين للقيام بعملهم. علاوة على ذلك، لا تجد هذه السياسات صدى لدى أصحاب العمل والشركات على اعتبار أنها ترفع من التكاليف للقيام بأنشطة تجارية وتزيد من عدم الكفاءة. ونتيجة لذلك نادراً ما يتم تطبيق أهداف التوطين وغالباً ما يتم تجاهلها من الحكومة والشركات في دول التعاون.
تأثيرات وتداعيات
ويشير التقرير إلى أن أحداث الأسابيع القليلة الماضية لفتت إلى أهمية الوظائف في الاستقرار السياسي والاجتماعي. وعلى ضوء تلك الأحداث، يتوقع أن تشهد المنطقة اندفاع دول التعاون نحو معالجة الخلل في سوق عملهم المحلي. لكنه لا يتوقع أن تكون المشكلة في دول التعاون هي الافتقار إلى الوظائف، بل عدم ملاءمة هذه الوظائف لشريحة كبيرة من المواطنين اللذين يتحاشونها. وفي حين يجد سيتي بنك من المهم ضمان توافر المهارات الملائمة لدى المواطنين لشغل الوظائف المتوافرة حالياً، ورغم أنه ضروري إلا أنه ليس شرطا كافيا لتحسين نسبة دخول سوق العمل في دول التعاون. والمطلوب هو إصلاح شامل لسياسات العمل الذي قد يرفع من معيار شروط العمل والأجور لجميع العاملين، ويخلق سوق عمل تنافسيا ومرنا بالنسبة للقطاع الخاص، ويقلص من تجنب أرباب العمل توظيف المواطنين عبر رفع تكلفة العمالة الأجنبية، وتقليص المزايا المتأصلة للعمل في القطاعات الحكومية مقابل الخاصة.
العمالة الرخيصة
في غضون ذلك، يرى التقرير ان تخلص الأسواق من العمالة الأجنبية الرخيصة ليس بالأمر السهل، وسيحمل معه عددا من التداعيات العميقة على الاقتصادات الخليجية.
أولاً: التضخم، وفي هذا يقول التقرير ان ارتفاع الرواتب وشروط العمل وتقليص العرض على العمالة الأجنبية الرخيصة ستحمل معها تكاليف كبيرة على الشركات، التي ربما تحمّلها للعملاء. وربما تصبح تكلفة المعيشة في دول التعاون شبيهة ببلدان أخرى غنية مثل الدول الاسكندنافية، حيث يعد فيها معدل الأجور وتكلفة المعيشة عالياً.
ثانياً: التنافسية، وتعليقاً على هذه النقطة، يقول تقرير سيتي بنك إن ارتفاع التكاليف سيحمل أثراً سلبياً في التنافسية في دول التعاون. بيد أن أثر ذلك سيتباين من بلد لآخر. إذ إن المنتجات الهيدروكربونية ستبقى مهيمنة على معظم صادرات دول التعاون، وبالتالي تنافسيتها لن تتأثر بارتفاع التكاليف محلياً. لكن بالمقابل، في اقتصاد متنوع مثل دبي، قد يتأثر كثيراً، على اعتبار أنه يعتمد على تصدير الخدمات والسلع غير النفطية، ويعتمد في نموه الاقتصادي على قدرته في جذب الشركات الأجنبية. ومما يقال إن دبي تعاني أقل من جاراتها بالنسبة للخلل الوظيفي. إذ إن كل مواطن فيها تتوافر أمامه 9 وظائف تقريباً. وبالتالي فإن التركيبة السكانية الصغيرة يمكنها وبكل سهولة، استيعاب سوق العمالة المحلية من دون الحاجة إلى إجراء إصلاحات متهورة في سوق العمل، كما أشير إليها في هذا التقرير.
ثالثاً: النمو. فعلى المدى القريب، قد يؤثر ارتفاع التكاليف وزيادة مستوى التضخم في النمو، وعلى تأجيل القرارات الاستثمارية. بيد أنه ومع ذلك يعتقد التقرير أن هناك مزايا واضحة على المدى البعيد. فنسبة كبيرة من الوافدين تحول أموالها إلى وطنها الأم، وهو ما يحمل معه أثراً سلبياً مصاحباً في ميزانية المدفوعات ونمو القطاع غير النفطي. ومع زيادة الرواتب وارتفاع نسبة التوظيف المحلي، قد يدعم الطلب المحلي، ويحسن من نشاط الاقتصاد غير النفطي، ويوفر حافزاً للتنوع.
رابعاً: ربط العملات. وتعليقاً على هذه المسألة يرى تقرير سيتي بنك ان التضخم والنمو قد يستدعي الحاجة إلى وجود استقلالية بالسياسة النقدية وانحراف التقلبات الاقتصادية الخليجية عن الأميركية. واستمرار ربط العملات الخليجية بالدولار في مثل تلك الظروف قد يثير التساؤل مرة أخرى عن جدوى ربطها بعضها ببعض. وكما كانت مساعي التوطين، فلم تفلح جهود التنويع في خلق وظائف مغرية أكثر للمواطنين في القطاع الخاص باستثناء القطاع المالي. علاوة على أن عدد الوظائف التي وفرها لا يمكن أن تواكب الاتجاهات الديموغرافية. وتتركز جهود التنويع بشكل كبير على نواحٍ تتسم فيها دول التعاون بميزة، خاصة في صناعات تستفيد من مدخلات الطاقة والهيدروكربونات الرخيصة والوفيرة مثل منتجات الألمنيوم والبتروكيماويات. وهي صناعات تتركز على رأس المال، وبالتالي لا توفر فرص عمل من الحجم الكبير.
عقدة تنويع الاقتصاد
يقول تقرير سيتي بنك إن رغبة دول التعاون في تنويع اقتصاداتها، بعيداً عن اعتمادها التقليدي على النفط والغاز مدفوع بالرغبة في تقليص الحساسية المالية والاقتصادية تجاه أي تقلب في أسعار السلع، وبالرغبة أيضاً في خلق فرص عمل. ويعد قطاع النفط والغاز محفزاً مالياً كبيراً. لكنه لا يوفر متطلبات العمل النامية لمواطني دول التعاون. أما الصناعة المالية وقطاع السياحة فيعدان محفزين على العمل وقطاعين ناميين، ويحملان معهما نظرياً الكثير من الوعود بخلق وظائف. ومع ذلك، فان دافع التنويع لم يسهم سوى بالقليل في تحسين دخول قطاع العمل في دول مجلس التعاون الخليجي.
وظائف غير جذابة
لفت تقرير سيتي بنك إلى أن أحد أسباب صعوبة دخول المواطنين سوق العمل هو أن الكثير منها غير جذاب، وفقاً لما يلي:
– نظرة المجتمع ثقافياً لبعض الوظائف: فالكثير من المواطنين الخليجيين لا يفكرون بالعمل في المهن اليدوية، مثل الإنشاء والصيانة والمصانع.. إلخ، أو وظائف أخرى مثل الخدم أو السائقين أو الطباخين وما إلى ذلك. وبالفعل، يقول التقرير إن المواطنين الخليجيين يتحاشون مثل هذه الأعمال، الأمر الذي ينتج عنه انحسار كبير في فرص العمل الملائمة.
– شروط العمل وتدني الأجور: ففي كثير من الحالات تكون الوظيفة ملائمة نظرياً، لكنها غير ذلك من ناحية الرواتب والشروط. وذلك لانه يتعين على المواطنين الخليجيين التنافس مع العمالة الأجنبية، التي غالباً ما ترضى برواتب أقل بكثير مما يأخذها المواطنون. كذلك غالباً ما تكون العمالة الأجنبية قادرة على المشاركة في سكن رخيص، على اعتبار أن أغلبهم يتركون عائلاتهم في الوطن ويأتون للعمل في منطقة التعاون.
– يفضل المواطنون العمل في القطاع الحكومي على الخاص: على عكس معظم الاقتصادات المتقدمة، تعد أجور وظائف القطاع الحكومي في دول التعاون أفضل من الخاص، وأقل تطلباً، وتوفر ضماناً وظيفيا أكبر. وحين الاختيار بين العمل في القطاع الحكومي أو الخاص تميل الأغلبية العظمى من المواطنين نحو الأولى، حتى انها قد لا تفكر أبداً في القطاع الخاص. ونظراً إلى أن عدد الوظائف في القطاع الحكومي محدود، فإن المواطنين في دول التعاون غالباً ما ينتظرون سنوات، على أمل إيجاد فرصة عمل في هذا القطاع، في الوقت الذي يتلقون فيه الدعم من أسرهم، وهم خلال هذه الأعوام يجلسون ولا يبحثون عن وظائف في القطاع الخاص.
رفع معايير التعليم والتحديات
يرى تقرير سيتي بنك أن أفضل مبادرة فعالة وأكثرها أهمية قامت بها دول التعاون بالنسبة لتحسين دخول المواطنين سوق العمل، هي رفع معايير التعليم. ففي السعودية، تم تأسيس – على الأقل – نحو 20 جامعة جديدة في السنوات الست الماضية فقط، بما في ذلك معهد الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا.
ومع ذلك، يرى التقرير أن هناك عدداً من التحديات التي تعيق كفاءة هذا الدافع في تحسين نسبة دخول سوق العمل على المدى القصير. وتشمل الآتي:
1- مزايا تحسين التعليم ستجنيه الأجيال المستقبلية، وليس أولئك الذين يدخلون سوق العمل الآن.
2- في حين أن توسيع نطاق العمل أمام المواطنين ممكن، لكن تحسين نظام التعليم لا يمكنه توسيع نطاق الوظائف التي يسعون للقيام بها.
3- عدد الوظائف المغرية حالياً للمواطنين الخليجيين من المستبعد أن يعالج الخلل الوظيفي حتى لو تم ملء الشواغر بمواطنين لديهم الكفاءة والقدرة.
4- ستبقى المشاكل المتعلقة بالتوظيف وتسريح الموظفين، وفروق التكلفة بين العمالة الأجنبية والمحلية، وتفضيل معظم الأفراد للعمل في القطاع الخاص قائمة. بمعنى آخر، إغلاق فجوة المواهب ضروري، لكنه خطوة غير كافية في معالجة الخلل الوظيفي في دول التعاون.