عماد مرمل – الجمهورية: لعلّ أسوأ ما انتهت إليه قضية الممثل زياد عيتاني هو هذا التشظّي في جسم الدولة على المستويات كافة. وزير الداخلية على نقيض وزير العدل، «فرع المعلومات» في مواجهة «أمن الدولة»، والقضاء «حائر» تبعاً لتعدد الولاءات. مرة أخرى، يبدو لبنان جمهورية بدول كثيرة.
كلٌ يملك روايته وحقيقته. الوقائع الموضوعية امتزجت بالحسابات الخاصة، فغدت الحصيلة هجينة وهزيلة. ضاعت الطاسة، واختلط الحابل بالنابل في مشهد سوريالي تعدّد أبطاله: سوزان الحاج، زياد عيتاني، الهاكر إ.غ. أمن الدولة، فرع المعلومات، القاضي بيتر جرمانوس، القاضي رياض ابو غيدا، الانتخابات النيابية، الدائرة الثانية في بيروت.
ووسط غابة المصالح المتضاربة والنيات المضمرة، صارت الحقيقة وجهة نظر، وتحوّلت العدالة الى «دلع». والاخطر في هذا السياق، انه أيّاً يكن الحكم او القرار النهائي الذي سيصدر بحق عيتاني في نهاية المطاف، فإنه سيظلّ على الارجح موضع اجتهاد وانقسام، بعدما تداعت الثقة في أجهزة السلطة تحت وطأة تجاذباتها المكشوفة، وصار كل مواطن، بل كل حساب على فايسبوك وتويتر، يملك صلاحيات المدعي العام والدفاع والقاضي ومحكمة الاستئناف.
ما هو مطلوب الآن أبعد من حدود تبرئة عيتاني او إدانته. الاولوية الملحّة باتت إنقاذ مصداقية الدولة وهيبتها قبل ان يكتمل نحرهما على أيدي المولجين بحمايتهما. انّ منظومة الامن والقضاء هي القاعدة الصلبة للاستقرار الداخلي والانتظام العام، وبالتالي فإنّ ضربها او تضاربها سيعني تعميم الفوضى والدخول في مسار من انعدام الوزن.
وبهذا المعنى، فإنّ من أبرز دلالات قضية عيتاني استئناف «الصراع» بين الاجهزة الامنية ومرجعياتها السياسية، على الادوار والانجازات، بعد فترة من التنسيق المشترك الذي أدّى الى نتائج إيجابية في مواجهة الخطر الاسرائيلي والتهديد التكفيري. والخشية هي من انعكاس هذا الصراع، إذا استمر، على وحدة جسم القضاء الذي تتنازعه مؤثرات سياسية، ينبغي ان تتوقف عند أبواب العدلية.
اكثر من ذلك، كادت شظايا التطور الدراماتيكي في ملف زياد عيتاني تصيب العلاقة بين رئيسي الجمهورية والحكومة، على وَقع القنص السياسي بين وزيرَي العدل والداخلية عبر جبهة «تويتر»، والنفور بين «أمن الدولة» المحسوب على عون و»فرع المعلومات» المحسوب على الحريري. لكنّ موقف عون وبيان الحريري اللذين تقاطعا عند ضرورة الاحتكام للقضاء والخروج من دائرة التجاذب السياسي والاعلامي، ساهما في حصر التداعيات.
الرواية الكاملة
ولكن، لماذا فُتح ملف عيتاني مجدداً، وكيف تشابكت خيوطه، وما هي أدوار المعنيين به، وأيّ مسار سيسلكه بعد انعطافته المفاجئة؟
بعد وصول الملف الى قاضي التحقيق العسكري الاول رياض ابو غيدا، أصدر استنابة قضائية طلب بموجبها من «فرع المعلومات» التوسّع في التحقيق الفني والتدقيق في بعض الوقائع الملتبسة، او غير المقنعة، الواردة في التحقيق الذي أجراه جهاز أمن الدولة.
إتصل وزير العدل بالقاضي ابو غيدا مُستفسراً منه عن دوافع قراره، فشرح له انّ القسم الفني في «فرع المعلومات» هو متطوّر و»شاطر»، ويمكن ان يساهم في إزالة الغموض الذي يحيط ببعض تفاصيل قضية عيتاني، مُقترحاً عليه ان يطّلع على فحوى الملف لمعرفة ما يقصده. لكنّ جريصاتي رفض، معتبراً انه ليس من شأنه التدخل في تفاصيل عمل القضاء، ومُكتفياً بالقول لأبي غيدا: كل ما أطلبه منك ان تنتبه، فأنت تمشي في حقل ألغام.
زوج الحاج: كيف أتصرف؟
في هذا الوقت، كانت قوة من الامن الداخلي تطوّق منزل المقدّم في قوى الامن الداخلي سوزان الحاج حبيش، بعد استدعائها الى التحقيق، ربطاً بالاعترافات التي أدلى بها القرصان إيلي غ. حول فبركة ملف عيتاني.
بوغِتت عائلة الحاج بالأمر، فيما ساَرع زوجها الى الاتصال بأحد الوزراء البارزين، قائلاً له: معالي الوزير، المنزل مطوّق، ماذا أفعل؟.. هل أطلب من سوزان ان تنزل إليهم؟
اجاب الوزير: نعم… عليها ان تنزل طوعاً، شارحاً انه يحقّ لمدير عام قوى الامن الداخلي اللواء عماد عثمان استدعاءها كونها موضوعة بتصرّفه، أما توقيفها فيحتاج الى اشارة قضائية.
ثم عاد الزوج وسأل عمّا إذا كان يُفترض بزوجته ان توَضّب بعض الاغراض في حقيبة، لتأخذها معها؟ فنصحه الوزير بأن تفعل ذلك، تحسّباً لاحتمال أن تطول فترة الاستماع اليها في التحقيق…
خلال الاستماع الى المقدّم الحاج في اليومين الماضيين، إمتنعت عن الاقرار بما نُسب اليها حول الطلب من قرصان الانترنت «إ.غ.» فَبركة ملف عمالة بحق زياد عيتاني، لافتة الانتباه الى انه كان من الطبيعي ان تتواصل مع هذا الشخص إنطلاقاً من كونه مخبراً أمنياً سبق له ان تعاون مع مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، وموضحة انّ رسائل «الوتساب» المتبادلة معه لا تتضمن أيّ طلب للإيقاع بعيتاني.
عثمان لضيفه: ستصاب بالذهول
على خط آخر، كان المدير العام لـ»أمن الدولة» يزور اللواء عماد عثمان في مكتبه، للتشاور في مستجدات لغز عيتاني. في مستهلّ اللقاء، بادرَ عثمان الى مخاطبة ضيفه بالقول: ما ستسمعه الآن سيصيبك بالذهول… ثم أطلعه على ما أدلى به الهاكر الموقوف، وكيف أقرّ بأنه فبرك التهمة لعيتاني بناء على طلب سوزان الحاج.
لم يقتنع الضيف كثيراً بالرواية، مشيراً الى انّ عيتاني أدلى خلال تحقيق «أمن الدولة» معه باعترافات كاملة في شأن تواصله مع المخابرات الاسرائيلية، وانّ هذه الاعترافات الموثّقة بالصوت والصورة تتضمن محاضر مقابلات ووثائق سفر وأسماء كاملة وتواريخ محددة، مُستغرباً كيف انّ مخبراً يتعاون منذ وقت طويل مع «أمن الدولة» و«الامن العام»، وهو متمرّس في عمله الأمني، يمكن أن يبادر بهذه البساطة الى اختلاق ملف بهذه الخطورة، فقط لإرضاء المقدّم سوزان الحاج.
عيتاني: لقد مثّلتُ دوراً
وعندما سئل زياد عيتاني لاحقاً عن سبب إدلائه باعترافات تدينه بالعمالة لإسرائيل، ما دامت غير صحيحة، أجاب: انا ممثّل، وأجيد تأدية كل الادوار… لقد خفتُ عندما وضعوني في غرفة مظلمة، ما اضطرّني تحت هذا الضغط النفسي الى أن أؤدي دوراً تمثيلياً!
على المستوى السياسي، سارعَ رئيس الجمهورية ميشال عون الى استدعاء مدير أمن الدولة، فيما حاول رئيس الحكومة من السعودية لَملمة الموقف وحصر الخسائر، بعد التغريدات المتبادلة بين وزير الداخلية ووزير العدل، والتي عكست انقساماً وزارياً في مقاربة قضية حساسة.
الحريري: خلّيها للقضاء
ولم يكتف الحريري بإصدار بيان احتوائي دعا فيه الى إخراج القضية من التجاذب والاحتكام الى مرجعية القضاء، بل اتصل من الرياض بالوزير المشنوق وطلب منه تهدئة الموقف، كما اتصل بوزير العدل للغرض نفسه، قائلاً له: ما بَدها هلقد… خلّيها للقضاء.
أكد وزير العدل لرئيس الحكومة التزامه بهذا الطرح الذي «شدّدت عليه في تغريدتي»، مضيفاً في «لَطشة» لوزير الداخلية: يلعن أبو الصوت التفضيلي..
الى أين من هنا؟
مصادر واسعة الاطلاع أبلغت «الجمهورية» انّ احد الاحتمالات المطروحة هو إخضاع ملف عيتاني- الحاج لـ»التحكيم»، عبر إحالته الى مخابرات الجيش للتدقيق فيه وحسمه، بعد التعادل السلبي بين «أمن الدولة» و»فرع المعلومات»، إلّا إذا طرأ خلال الساعات القليلة المقبلة تطوّر نوعي يُلغي الحاجة الى مثل هذا المخرج.