إكس خبر- العائد من المشرق العربي إلى القاهرة هذه الأيام، كالقارئ في تاريخ العرب والمسلمين، لا يعرف كيف يصدر حكماً منصفاً على من قادوا أهلنا في زمن غابر ويقودونهم في زمن آخر هو زماننا. قررنا الذهاب إلى المشرق وفي حقائبنا عدد من الأسئلة، تماماً كما نفعل ونحن نستعد لقراءة تاريخ أجدادنا وعدنا. عدنا لنجد أن في حقائبنا أسئلة أكثر عدداً من تلك التي بدأنا بها رحلتنا. حتى هذه الأسئلة القديمة وجدناها وقد ازدادت تعقيداً.
المزاج العام في لبنان مثلاً توجزه كلمات سائق تاكسي ركبت معه صديقة مصرية. سألها عن الأحوال في مصر، فأجابت إجابة ترضي ضميرها ولا تثير مواجع عند السائل. سألته تأدباً ومجاملة عن الأحوال في لبنان، وهي التي تعرف عن لبنان ما يكفي ويزيد. أجاب ولم يكن على كل حال في انتظار السؤال. وصف الأحوال بأنها صعبة بل ومتردية. وتأكيداً لرأيه أفاض فراح يردد بحماسة وفخر ما معناه أن أحلى الأيام كانت أيام الحرب الأهلية اللبنانية، حين كان كل شيء «مرتباً بالمعنى اللبناني» ومنضبطاً. كان كل منا يعرف ما يريد وما عليه أن يفعل… كنا نتبادل إطلاق الرصاص والصواريخ من الظهيرة وحتى غروب الشمس. وحين يحل المساء نتوقف عن القتال لنبدأ الاستعداد لقضاء سهرات ممتعة آمنين مطمئنين. كان المال يأتينا بانتظام وبوفرة من الأصدقاء العرب، وكان قادتنا، يقصد أمراء الحرب، يوزعونه علينا بعدل وكرم. كانت بحق أيام رخاء و «استقرار. أيام نحن إليها كلما ضاقت بنا سبل الحياة وتهدد أمننا وأمن عائلاتنا وتراكمت الغيوم عند الأفق.
في لبنان، كما في سورية والعراق والأردن، يتهامس مواطنون وهم يتبادلون روايات وحكايات عن ممارسات العدل في المجتمعات الخاضعة لحكم «خلافة داعش». تنتقل الروايات بأسرع مما تتنقل وسائل التواصل الاجتماعي الالكترونية. تنتقل بالفم والتواصل المباشر، مما يعني أن المسؤولين عن الإعلام في «دولة الخلافة» يعملون وفق خطتين إعلاميتين متوازيتين. خطة موجهة إلى الغرب، وهدفها «ترهيب» حكومات الغرب، وإثارة الرعب في نفوس الرأي العام ودفعهم جميعاً إلى اتخاذ قرارات متهورة. وخطة ثانية موجهة إلى الرأي العام في مجتمعات المشرق العربي، وربما في مجتمعات عربية أخرى، بهدف كشف عيوب أنظمة الحكم وقصور الإدارة القائمة وفسادها، ونشر الاطمئنان بأنه في ظل حكم «داعش» سيكون لكل صاحب حق حقه.
تسمع في المقاهي وصالونات المنازل الكثير من هذه الحكايات، وإن تردد بعضها مختلطاً بنبرة عدم تصديق أو إنكار أو سخرية. تسمع أيضاً عبارات تكشف عن انبهار مكتوم بانتصارات «داعش». «داعش» التي اجتمعت على محاربتها أكثر من خمسين دولة بقيادة أعظم الدول وأقواها وأغناها. قيل لي من باب النصيحة ألا أستهين بوقع قصص انتصار وإن كانت بسيطة أو محدودة في مجتمعات لم يصل إلى أسماعها على امتداد سنوات نبأ انتصار واحد حققه فصيل أو حركة أو فرد في هذه الأمة. لقد افتقد العرب كلمة النصر، وكثيرون منهم، بل لعلهم الغالبية، عاشوا حياة كاملة لم يتذوقوا معناها.
عائد أنا من المشرق بانطباع آخر، عدت مقتنعاً بأن سمعة أميركا، رئاسة ومؤسسة عسكرية ومؤسسات استخباراتية وسياسة خارجية، في أسوأ حال. عائد وحقيبتي متخمة بعدد من قصص التآمر وتطبيقات نظرية المؤامرة يتجاوز قدرتي على التعامل معها بعقل واتزان. شملت المؤامرة كل شأن من شؤون الحرب «الداعشية»، ابتداء من نشأة تنظيم «داعش» وأصوله الفكرية والجهادية ومساقط رأسه ومروراً بخطة الرئيس أوباما وحصار مدينة عين العرب والمقاومة العنيدة من جانب ما يسميه الأتراك والأميركيون وكثير من الحكام العرب بالإرهاب الكردي الذي يتصدى لإرهاب «داعش»، وانتهاء بتصريحات جو بايدن ووزير الدفاع السابق ليون بانيتا وإشاعات نزوح الغاضبين والطموحين من البيت الأبيض. مشكلتي هي مشكلة معظم من قابلت من رفاق الطريق الطويل، وهي أننا مع رفضنا ومقاومتنا لحديث المؤامرة، وجدنا أنفسنا هذه المرة أمام سادة وخبراء عرفوا بالرشادة يقدمون معلومات موثقة ونتائج مؤكدة تعزز حديث المؤامرة.
مرة بعد أخرى يثار في وجودي موضوع مصر. كان التركيز هذه المرة على المقارنة بين ما حققه طرفان من أطراف الربيع العربي. إذ تكاد تفلح كل من تونس ومصر في استعادة بعض الاستقرار في أوضاعهما. واحدة تفلح بالسياسة غالباً والأخرى تفلح بالأمن. كلتاهما جعلتا استعادة هيبة الدولة هدفاً يسبق أي أهداف أخرى، ولكن الدولتين تحيط بهما بيئة إقليمية جديدة رافضة لفكرة الدولة ومراهنة على فكرة الحدود المفتوحة والعقيدة الجهادية، ومتحمسة لمبدأ إحلال «هيبة» الجهاد محل مبدأ «هيبة» الدولة. هيبتان لا تجتمعان، ولا تتوافقان أو تتحالفان، متصارعتان دائماً وموضوع الصراع بينهما هو «الشرعية»، ولن تتحقق شرعية الحكم كاملة لأي منهما ما لم يقض أحدهما على الآخر، داخلياً وإقليمياً.
لا أظن أن الزائر الى المشرق من بعدي سيسمع كثيراً عن الديموقراطية والليبرالية والتعددية الحزبية كأشكال وطرق مقترحة لمستقبل الحكم في دول العالم العربي وبخاصة دول المشرق. راعني بل وهزّني إلى الأعماق، نقاش بدأ متهوراً وانتهى جاداً ومتزناً، بدأ باستفسار بسيط وباطنه عميق عما اذا كان جائزاً أو محتملاً أن يأتي يوم يقرر معظم العرب اختيار نظام الحكم في لبنان نموذجاً يحتذى في عدد من دول المشرق. بمعنى آخر، ألن يكون العراق أحسن حالاً في ظل نظام توافقي – طوائفي كالنظام الذي اختاره الآباء المؤسسون في لبنان؟ ألن تكون سورية واليمن وربما دول أخرى في الجزيرة العربية أحسن حالاً وأهدأ بالاً وأخف ظلاً لو أخذت بالنموذج اللبناني؟
أحد الأسئلة المرافقة للزائر العائد من المشرق، كان السؤال المتعلق بشرعية جامعة الدول العربية كمؤسسة للنظام الإقليمي العربي. الحديث عن الجامعة العربية في هذه الزيارة كان مختلفاً في الجوهر، كما كان في القصد. كان الخبراء من الأصدقاء في الزيارات السابقة عبر العقود ينتقدون الجامعة، ناشدين التصويب والإصلاح. هذه المرة لا إشارة ولا انتقاد وإنما تجاهل في أحسن الأحوال، ودعوة للغياب والزوال في أسوأ الأحوال. تحدثوا، و للمرة الأولى عن فقدان الشرعية. فالجامعة في رأيهم فقدت أسس شرعيتها، مثلها مثل أنظمة حكم كثيرة في النظام العربي. هناك نظام «داعش» لـ «الخلافة» يتحدى الجامعة العربية شكلاً وموضوعاً وحقاً في الوجود، والجامعة لا ترد التحدي بأقوى أو بأضعف منه، لا ترده على الإطلاق. لعلها لا تجد حجة مقنعة أو لعلها، وفق قول أحد الخبثاء، غير واثقة تماماً بأن هناك إجماعاً بين الدول الأعضاء كافة على اعتبار «داعش» عدواً للجامعة. خلافي مع هؤلاء الخبراء من الأصدقاء تركز على حقيقة أن الجامعة هي ليست الأمانة العامة بل هي الدول الأعضاء. هذه الدول مرتبكة وفاقدة الإرادة وساعية إلى حليف أجنبي ليحارب معركته على أراضيها وباسمها وبأموالها، وهذا بالضبط ما تفعله الجامعة باعتبارها منبر هذه الدول الأعضاء ومجمع «إراداتها».
ولكن القضية أكبر بكثير من هذا الجدل حول الجامعة كمنبر لأعضائها، فالجامعة أيضاً منبر للأمة العربية، وهذه وفق رأيي لم تفقد بعد شرعية وجودها. وإذا كان للجامعة العربية أمل في استعادة بعض ما فقدته من شرعية بسبب سوء الأداء وفقدان الإرادة وانفراط الشمل و «سقوط» أعضاء، فلن يتحقق هذا الأمل إلا بالعودة إلى المنبر الآخر: منبر عروبة الجامعة وعروبة النظام الإقليمي.
يقال إن أغلب قادة الأمة العربية ليسوا على مستوى سنوات الأزمة المقبلة وتحدياتها. هذا قول صحيح. وصحيح أيضاً القول إن هذه الأزمة المستعصية ستثمر بنضالاتها وتحدياتها أفكاراً جديدة وقيادات أكفأ ونظاماً إقليمياً فاعلاً.